بين الثورة والدولة: النخب بوصفها بنية امتياز لا حاملًا للمشروع الوطني: لا يمكن قراءة التاريخ السياسي السوداني بوصفه مجرّد سلسلة ثورات ناجحة وإخفاقات لاحقة في التحول الديمقراطي، بل بوصفه نتاجًا مباشرًا لبنية نخبٍ متشكّلة تاريخيًا عبر امتيازات إثنية ودينية وجهوية وطبقية وجندرية رسّخت لنفسها موقعًا فوق البنية الاجتماعية، وظلت تُعيد إنتاج سلطتها من خلال احتكار تعريف الدولة واحتكار الحديث باسم "الوطن". فالعجز النخبوي عن فهم الدولة ليس نقصًا معرفيًا فحسب، بل هو فشل بنيوي ناتج من أن النخب نفسها جزء من المشكلة التي ترفض تحليلها: نخب ذات تكوين اجتماعي غير متكافئ، نشأت في ظل الدولة الاستعمارية - المركزية، واستفادت من هندستها الهرمية، ثم واصلت إدارة الدولة بالعقلية ذاتها دون مساءلة جذور امتيازها أو آليات إعادة إنتاجه.
وهكذا يغدو الشعار المتكرر حول "نجاح الثورات وإخفاق التحول الديمقراطي" ستارًا لغويًا مريحًا تخفي خلفه النخب حقيقة أشد ارتباكا وتشويش: فمنذ أكتوبر 1964، وأبريل 1985، ثم ديسمبر 2018، ظلّت النخب السودانية تتجنب طرح الأسئلة التأسيسية الجوهرية التي كان ينبغي أن تُطرح في كل لحظة انقلابية من لحظات إعادة التكوين الوطني. وقد جاء هذا التجنّب بأوجه متعددة: مرّاتٍ عمدًا حفاظًا على مواقعها داخل بنية الامتياز التي صاغها التاريخ السياسي للدولة، ومرّاتٍ سهوًا نتيجة الدوران داخل خطاب سياسي موروث يكتفي بسطح الأزمة دون مقاربة بنيتها العميقة، ومرّاتٍ جهلاً بطبيعة الدولة نفسها وبسياقات تشكّلها التاريخية والاجتماعية، رغم ادعاء النخب امتلاك مشروع إصلاحها! ولأن مساءلة الدولة تعني، بالضرورة، مساءلة الامتياز التاريخي الذي تستند إليه هذه النخب، فقد فضّلت الالتفاف على جوهر الأزمة عبر طرح أسئلة مغلوطة تُعيد إنتاج الحلقة المفرغة ذاتها، بدل مواجهة السؤال المركزي الذي يتهرب منه الجميع: كيف يمكن إعادة صياغة الدولة بطريقة تخلخل البنى التي تشكّل منها نفوذ النخب ذاتها؟
لقد ظلت النخب رهينة فهم إجرائي وضيق للديمقراطية، لأنها تدرك أن أي ديمقراطية حقيقية—ديمقراطية تعيد توزيع السلطة والثروة والاعتراف - ستمس مباشرة الامتيازات الإثنية والدينية والطبقية والجندرية التي منحتها موقعها داخل الدولة القديمة. ولهذا السبب بقيت هذه النخب بعيدة عن النقد الفلسفي - السياسي الذي ينظر إلى الديمقراطية بوصفها عملية تفكيك للهرمية البنيوية التي أرستها الدولة الاستعمارية وأعادت إنتاجها الدولة الوطنية لاحقًا، لا بوصفها مجرد آلية تداول للسلطة. وبذلك تحوّلت النخب من فاعل سياسي يدّعي حمل مشروع وطني إلى ظاهرة اجتماعية تُعيد إنتاج امتيازها بوصفه معيار النجاح والفشل. وبقي تصورها للديمقراطية، ولطبيعة الدولة، وللمستقبل، محصورًا داخل دائرة الامتياز التي تمنحها الشرعية والسلطة، دون أن تمتلك الجرأة على النظر إلى نفسها كجزء من بنية الحكم الاستعماري الداخلي. وهكذا يظل السؤال المؤسس غائبًا: أي دولة يمكن أن تنشأ خارج حدود الامتياز الذي يُشكّل وجود هذه النخب؟
أولاً: الفشل النخبوي كفشل معرفي نابع من بنية الامتياز قبل أن يكون فشلًا سياسيًا إن الخلل في المشهد السياسي السوداني لا يبدأ من غياب البرامج أو اضطراب الإرادة السياسية كما قد تُصوّره النخب، بل يبدأ من المخيال السياسي المُحمَّل بامتيازات إثنية ودينية وطبقية وجندرية وجهوية تشكّلت تاريخيًا داخل مؤسسات الدولة الاستعمارية. وهذا المخيال، بوصفه نتاجًا للهيمنة، يعيد إنتاج السؤال الخطأ: من يحكم؟ بينما تتطلب لحظة ما بعد الثورة أن يُطرح السؤال المؤسس: كيف تُبنى الدولة، ومن أجل من، وعلى أي توزيع للسلطة والاعتراف؟ هذا التشوّه المعرفي هو ما يسميه أنطونيو غرامشي بـ "الأزمة العضوية" - حين تصبح النخب عاجزة عن تمثيل المجتمع لأنها أسيرة تكوين اجتماعي ضيّق يُقصي الأغلبية ويحتكر الشرعية. وفي السودان تَجلّى هذا الفشل في: - إعادة تدوير الأحزاب الطائفية بعد 1964 و1985 بوصفها مكوّنًا لامتياز طبقي - ديني لا مشروعًا وطنيًا - تجميل الأجهزة الأمنية بعد 2019 دون تفكيك بنيتها الإثنية - الجهوية التي كرّست العنف كأداة حكم - الفصل القسري بين التغيير السياسي وإعادة تأسيس الدولة، وهو فصل يخالف اي رؤية تأسيسية للدولة كـ"تجسيد للإرادة الأخلاقية للشعب"، لا كجهاز تديره أقلية تاريخية. بهذا المعنى، فإن النخب السودانية لم تفشل فقط في إدارة الواقع السياسي، بل فشلت في وعي ذاتها كبنية امتياز تُعرّف الدولة وفق موقعها داخل الهرمية الاجتماعية. إنها وفي اهم اوجهها أزمة معرفية قبل أن تكون سياسية!
ثانيًا: الثورات السودانية… نجاحات كبرى خُنقت في حقل اجتماعي ضيق أسقطت ثورات أكتوبر وأبريل وديسمبر الأنظمة القائمة، لكنها لم تُسقط الطبقات الحامية للامتياز التي صنعتها النخب داخل الدولة: الجيش كجهاز احتكار للعنف، المركزية الإدارية، الامتيازات الإثنية، الهيمنة الدينية، الاقتصاد الريعي، والنخب الثقافية التي تُعيد تعريف "الوطن" بما يوافق تمثيلها هي له. ولهذا، فإن ما يقوله فرانتز فانون عن الثورات غير المتبوعة بإعادة تأسيس ينطبق تمامًا على السودان: ""إنها انتصارات تُحرر الجسد ولا تُحرر البنية فالدولة السودانية ليست مجرد دولة فاشلة، بل حالة نموذجية لـ "الاستعمار الداخلي"، حيث يُعيد المركز إنتاج نموذج الدولة الاستعمارية التي خُلقت لحماية الامتيازات لا لخدمة المواطنين. انشغلت النخب، بتكوينها الإثني - الطبقي الضيق، بسؤال الشرعية السلطوية: من يتصدر الحكم؟ بينما تجاهلت الشرعية التأسيسية: من يملك الحق في تعريف الدولة؟ ومن له الحق في إعادة توزيع السلطة والموارد؟ الثورات الكبرى حوصرت لأن النخب فسّرت نجاحها من داخل هويتها الاجتماعية الضيّقة، لا من داخل قضايا ومطالب الأغلبية المهمّشة.
ثالثًا: الحرب بوصفها لحظة الحقيقة في انهيار مشروع النخب الحرب ليست انحرافًا أو حادثًا عرضيًا، بل هي النتيجة الطبيعية لدولة لم تعِ نفسها لأن النخب التي تُديرها لم تعِ طبيعتها. إنها التجسيد العملي لما يسميه رينه جيرار "العنف المؤسس" - العنف الذي يتحوّل من أداة لضبط المجتمع إلى آلية لإعادة إنتاج الهيمنة حين تفشل الجماعة في إدارة تناقضاتها. وبما أن النخب السودانية - بتكوينها الإثني – الطبقي – الذكوري - فشلت في طرح أسئلة: ١/ العدالة التاريخية، ٢/ وإعادة تعريف الهوية الوطنية، ٣/ والمواطنة بوصفها حقوقًا لا انتماءً إثنيًا، ٤/ والعلمانية كشرط للتعدد، ٥/ وتأسيس الجيش على أسس جديدة، فإن انفجار الدولة كان مسألة وقت. لأن الدولة التي تُبنى على الامتياز تنهار حين تتمدد مطالب المواطنين خارج مركز الامتياز! وهنا يصبح الاعتراف المرّ ضرورة وجودية لا مهرب منها: فالنخب لم تُخفق في حماية مؤسسات الدولة فحسب، بل أخفقت قبل ذلك في حماية الإنسان السوداني نفسه، وهو القيمة الأولى والغاية الأخيرة لأي مشروع سياسي. وهذا الإخفاق أخلاقي قبل أن يكون سياسيًا، لأن الحرب تمثل الانهيار الكامل للأخلاق العامة، ولحظة انكشاف البنية العميقة للامتياز التي ظلت تتخفّى وراء ادعاء "الطبيعية" و"الحياد"، بينما هي في جوهرها مصدر إعادة إنتاج الهشاشة والعنف.
رابعًا: الديمقراطية المنشودة… أي ديمقراطية تُعيد تأسيس الدولة؟ إن اختزال الديمقراطية إلى صناديق اقتراع وأحزاب وانتخابات - وهو ما تعودت عليه النخب السودانية - لا يُعدّ مجرد قصورٍ معرفي، بل يُمثّل آلية دفاعية تهدف إلى حماية بنية الامتيازات ذات الجذور الطبقية والإثنية والدينية التي تستمد منها هذه النخب شرعيتها ومصالحها. فالديمقراطية في معناها الجوهري ليست عملية إجرائية، بل مشروعًا لإعادة توزيع القوة والموارد والاعتراف. ومن ثمّ، فإن أي ديمقراطية حقيقية تهدد مباشرة مواقع النفوذ التي راكمتها النخب عبر عقود، لأنها تتطلب تفكيك الهياكل التي قامت عليها الدولة القديمة، لا الاكتفاء بإدارتها بالآليات نفسها.
تشير الأدبيات المعاصرة في الفكر الديمقراطي إلى أن "الديمقراطية" لا تُختزل في كونها تقنية حكم إجرائية، بل تُفهم باعتبارها فضاءً للصراع المنتج؛ صراعًا يعاد عبره تشكيل السلطة والهوية والبنى الاجتماعية، بحيث يتحول المجال السياسي من ساحة لإدارة السلطة اليومية إلى حقل تأسيسي يعيد تعريف شروط العيش المشترك ومعايير الانتماء والمواطنة. وفي الحالة السودانية، يستحيل الحديث عن ديمقراطية قابلة للحياة دون معالجة الملفات التأسيسية المرتبطة بطبيعة الدولة نفسها، لا بآليات تداول السلطة داخلها. وعلى رأس هذه الملفات تأتي الأسئلة الجوهرية المتعلقة بإعادة بناء الدولة على أسس جديدة، تضمن تجاوز بنية الامتيازات التي تشكلت داخلها عبر التاريخ. وعلى رأسها: - العدالة التاريخية باعتبارها المدخل الضروري للتحرر من أنماط الاستعمار الداخلي التي كرّست علاقات اللامساواة العرقية والجهوية. - العلمانية بوصفها إطارًا مؤسسيًا يحدّ من الامتياز الديني ويمنع توظيف المقدّس في الصراع السياسي - تفكيك المركزية الموروثة من الدولة الاستعمارية التي أعادت إنتاج تراتبية إثنية - جهوية غير معلنة - إعادة تعريف الهوية الوطنية بعيدًا عن الصيغة الأحادية التي أقصت تعددية المجتمع السوداني تحرير المجال العام من هيمنة رأس المال والإعلام لضمان إمكان تداول الأفكار خارج منطق السوق ومنطق الامتياز. وعليه، فإن ما يُسمّى بـ"فشل الانتقال الديمقراطي" في السودان ليس إخفاقًا سياسيًا معزولًا، بل هو غياب رؤية فلسفية -تأسيسية قادرة على تفكيك بنية الامتياز بدل إعادة تدويرها. فالديمقراطية لا تُبنى فوق الدولة القديمة، بل فوق دولة جديدة تُعاد صياغتها بمنطق المساواة والاعتراف والتعدد.
خامسًا: النقابات والأحزاب… مؤسسات تمثيل أم مؤسسات امتياز؟ في النظريات الديمقراطية المعاصرة، تُعدّ النقابات والأحزاب مؤسسات "حراسة ديمقراطية". لكن في السودان، وبسبب بنيتها الطبقية – الإثنية - الجهوية، تحولت إلى: - نقابات تخضع للهرمية الحزبية بدل القواعد الاجتماعية. - أحزاب تُدار بمنطق وعقلية زعامات ما قبل الدولة الوطنية. - خطابات سياسية تحمي الامتياز ولا تُقارب سؤال التأسيس. وهذا ما تشخّصه حنّة أرندت حين تحذّر من المجتمعات التي تُخطئ في تعريف الحرية بوصفها امتلاك السلطة لا المشاركة في خلق المجال السياسي بإنصاف. لا يمكن لهذه المؤسسات أن تستعيد دورها ما لم تقطع مع بنيتها الامتيازية وتتحول إلى: - آليات لحماية المجال الديمقراطي من هيمنة المال والإعلام، والتعليم والحظوة التاريخية. - فضاءات مقاومة لقهر الدولة لا امتدادًا لها، - منصات لإنتاج مشروع تأسيسي جديد لا لإدارة سلطة بالية.
سادسًا: الأسئلة التأسيسية… نحو دولة تتجاوز الامتياز بدل أن تخدمه لا مستقبل لسودان جديد دون طرح الأسئلة التي تهرب منها النخب منذ 1956 - أسئلة تتعلق بإعادة بناء الدولة نفسها، لا إعادة تدوير إدارتها. وهذه الأسئلة، في رؤية السودان الجديد، ليست سياسية فحسب، بل وجودية - فلسفية: ١/ ما طبيعة الدولة التي نريد؟ دولة المواطنة العلمانية أم دولة الامتياز المقنّع؟ ٢/ ما العقد الاجتماعي اللازم؟ العقد الذي يوزّع السلطة والموارد والاعتراف، لا العقد الذي يُعيد إنتاج الامتياز. ٣/ ما تعريف المواطنة؟ حقوق دستورية أم انتماء إثني - نوعي - جهوي وديني؟ ٤/ ما مستقبل الجيش؟ الإصلاح يعني استمرار البنية، أما التأسيس فيعني خلق جيش جديد خارج منطق الامتياز. ٥/ كيف نواجه إرث التمييز والعنف؟ العدالة التاريخية شرط لقيام دولة جديدة. ٦/ ما موقع العلمانية؟ هي ضمان المواطنة والتعدد، لا عداء الدين. ٧/ كيف نمنع سيطرة رأس المال والإعلام والتعليم العنصري على الديمقراطية؟ المجال العام يحتاج إلى حماية مؤسسية، لا إلى حياد زائف.
خاتمة: من التفسير إلى التأسيس… ومن الامتياز إلى المواطنة إن النخب السودانية ليست بحاجة إلى برامج انتقال، بل إلى ثورة معرفية على ذاتها، تبدأ من الاعتراف بطبيعتها كبنية امتياز تاريخية، لا كشريك محايد في مشروع الدولة. فالتحول الديمقراطي لا يتحقق بترميم السلطة، بل بـ إعادة تأسيس الدولة والهوية والمواطنة والعدالة. رؤية السودان الجديد ليست مشروعًا سياسيًا فحسب، بل مشروعًا فلسفيًا - تاريخيًا لتحرير الدولة من الامتياز وبنائها على الكرامة الإنسانية والتعدد والعلمانية والمساواة والانصاف. وكل ما عدا ذلك ليس إلا دورانًا في خراب قديم تقوده نخب تخشى مواجهة السؤال الأبسط والأخطر: لا انتقال بلا تأسيس، ولا ديمقراطية بلا دولة جديدة.
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة