أولا بالصدفة كنت قد ذكرتكم في مقالي قبل يومين بعنوان: (في ذكري ديسمبر: ألغاز سقوط الإنقاذ) حيث عرضت فيه موقفكم الشجاع من قضية رفع أسعار الغاز في عهد النظام الساقط لأن قضية الغاز أكثر شيء عاني الناس منه وقد آثار دهشة واستغراب الجميع رفع أسعاره بما يفوق حتي أسعاره العالمية في ذلك الوقت لأن ذلك شكل ضغطا كبيرا علي الكهرباء وأعاد الناس إلي أزمان الفحم والحطب فأثناء بحثي قرأت نصكحم للسلطان من علي منبر ديني مهم ومعتبر كالمسجد الكبير بأن (من شقّ علي الناس شقّ الله عليه)
ثم أنني شاهدت حلقة برنامج (ويبقي الأثر) في صباح الاربعاء ٣ ديسمبر بالفضائية الرسمية والتي تناولتم فيها قضية (صلة الأرحام) والتي أود أن نتدارس فيها قليلا لو اتسع صدركم وسمح وقتكم لأنني اعتقد أن مسألة صلة الأرحام تحيطها مفاهيم خاطئة ولها علاقة حتي بالإقتتال العبثي الدائر الآن بين طائفتين من المسلمين في نفس البلد
الأخ الدكتور .. لقد بدأتم الحلقة بداية صحيحة حينما ذكرتم أن صلة الأرحام إنما هي الإحسان إلي الأقارب وبالطبع الإحسان .. بالمال فحتي في قوله تعالى: وبالوالدين إحسانا مقصود بلفظ {احسانا} الإنفاق لأنه عطف عليه اليتامي والمساكين: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين} والناس يقولون: فلان (رجل البرّ والإحسان) فلا يمكن أن يكون الإحسان (بالقول) ومن المؤسف استدلالكم بالحديث الضعيف: {صِلُوا أرْحامَكُم ولَو بِالسَّلامِ} الذي أخرجه ابن عدي في (الكامل في الضعفاء) [٦/١٥٨]
فاالمفسرون ذكروا ان عبارة {ايتاء ذي القربي} المتكررة في القرآن مقصود بها " صلة الرحم" بمعني أن صلة الرحم هي ايتاء ذي القربي وقد ذكر في آية اخري: {وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡیَتَـٰمَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِیلِ وَٱلسَّاۤئلِینَ ...} ف "ايتاء" تعني اعطاء المال: إذن صلة الرحم =هي= ايتاء المال للأقارب:
في قاموس المعاني: (وصله بكذا من المال): أحسن إليه به. وليست "الصلة" هنا من باب "وَصَل" بمعني "بَلَغَ" المكان، أو الوصل الذي هو ضد الهجران. والمشترك اللفظي معروف في لغة العرب ونحن حتي نستخدم كلمات (وَصْل) و(ايصال) بمعني مستند يثبت "دفع" مبلغ من المال ولقد جاء في الآثار ما يوضح أن الصلة بمعني إعطاء المال: جاء في (سير أعلام النبلاء) للذهبي: "عن محمد بن أحمد بن عياض المفرض: سمعت حرملة يقول: كان الليث بن سعد يصل مالكًا بمائة دينار في السنة"
وجاء في تاريخ الطبري؛ تحت باب: سنة ١٣٨: "ومنها غزو العباس بْن محمد بْن علي بْن عبد الله بْن العباس – في قول الواقدي – الصائفة، مع صالح بْن علي بْن عبد الله، فوصله صالح بأربعين ألف دينار، وخرج معهم عيسى بْن علي بْن عبد الله، فوصله أيضا بأربعين ألف دينار"
وفي تاريخ الإسلام للذهبي ص ٢٦٧-٢٦٨: "وقد روى أبو بكر الأنباري، عن أبيه، عن أبي عكرمة الضبي أن الواقدي قدم العراق في دين لحقه، فقصد يحيى بن خالد، فوصله بثلاثة آلاف دينار. وروي نظيرها من غير وجه أن يحيى وصله بمالٍ طائل"
في صحيح مسلم عن أسماء بنت أبي بكر: "يا رسول الله، قدمت عليّ أمّي وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: (نعم، صِلي أمك). فمعني قولها أذن: "أفأعطيها؟" لأن أمها هي فعلا معها في البيت.
وفي مسلم، عن ابن عمر ان أعرابيا لقيه في الطريق كان صديقا لابيه، فنزل له من حماره وأعطاه اياه وأعطاه عمامته التي يتقي بها الحرّ، فاستكثر ذلك رفاقه وقالوا له: إن الأعراب يرضون بالشيء القليل فقال: إني سمعت الرسول يقول: (إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه).
في تفسيرالقرطبي: قال مجاهد: لا تقبل صدقة من أحد ورحمه محتاجة"
في الحديث: (من سره أن يبسط له في رزقه، أو ينسأ له في أثره، فليصل رحمه). قال ابن حجر: (معنى البسط في الرزق البركة فيه، لأن صلة أقاربه صدقة، والصدقة تربي المال وتزيد فيه).
من ذلك يتبين أن زيارة القريب شيء وصلته بالمال شيء آخر فلا يقال وصل فلانٌ فلاناً إلا إذا أعطاه مالا ولهذا فالزيارة اليوم ربما تكون ليست ضرورية فايصال المال للقريب المحتاج يمكن أن يتم دون زيارة والصلة بهذا المفهوم لا تكلف مالا كثيرا فانت تقدم المعونة فقط للمحتاجين من الأقرباء بدلا من صرف أموال طائلة في السفر والتنقل بين جميع الأقارب فأنت لا تحتاج أن "تصل" جميع اقاربك إنما المحتاجين فقط. ومن ناحية أخري فإن الزيارات الودّية بين الأقارب اذا كانت تتم في أجواء من الوئام والمحبة فمثل هذه الزيارات مطلوبة ولكنها لا تقوم مقام الصلة بالمال هي ربما تكون مثل الوضوء للصلاة فلو توضأ أحد ألف مرة لا يقوم هذا مقام الصلاة فالزيارات بدون "صلة" ربما تأتي من باب تعلُّم الأنساب: «تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ».
الأخ الدكتور .. قلتم في منتصف الحلقة ان "الموضوع ما موضوع قروش" وضربتم مثالا علي ذلك باللّمّات التي يتجمع فيها الأقارب كل مرة عند أحدهم وذات مرة كنت أناقش أحد الشيوخ الميسورين فقال لي أن الفقراء من العائلة قالوا لنا "تعالوا لينا نحن البنديكم" !!
ينبغي أن ننتبه هنا ونتيقظ جيدا .. فالناس يرون أن العلاقة بين الأقارب لا يمكن أن تكون "مادية" لكن الله خالق الإنسان نفسه الحكيم الخبير جعل العلاقة بين الأقارب مادية قائمة علي العطاء وانت ناقضت نفسك يا دكتور حينما عملت "تحدّي" في نهاية الحلقة وقلت اتحدي أي شخص بينه وبين قريبه قطيعة وقام شال ليهو شاي وكيلو سكر وذهب إليه..
هذا يؤكد أن الموضوع موضوع قروش وعطاء ومعظم التوترات بين الأقارب تكون دائما بسبب "حسابات قديمة" مثلما اتضح من أسئلة الجمهور
والذين يقولون لأقاربهم الأغنياء (تعالوا لينا نحن البنديكم) هؤلاء في الحقيقة ليسوا فقراء وإنما هو الكرم والجود فكما قال المتنبي" لَولا المَشَقَّةُ سادَ الناسُ كُلُّهُمُ الجودُ يُفقِرُ وَالإِقدامُ قَتّالُ فمثل هؤلاء هو كما نقول: (اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب) وكان في الماضي يمدحون الشخص فيقولون: (اللي في جيبو ما حقّتو) فهؤلاء دائما يتجمع عندهم الناس الأقارب والغرباء ومع أنهم لا يغتنون في الغالب لكنهم لا يفتقرون أبدا لماذا؟؟ لأن الله يخلف لهم و"بالزايد" وهذه هي الجائزة الكبرى للصلة (الإنفاق) والجزاء من جنس العمل وفعلا هناك نماذج في مجتمعنا يشار إليهم ويقال: لو أن هذا كان "يلمّ" القروش لكان لديه عمارات وعربات .. الخ
الأخ الدكتور .. قد يعتقد البعض أن قضية صلة الرحم قضية عادية لكنكم تعلمون أن صراعات قبلية بين أبناء العمّ تكون بسبب أن أبقار هؤلاء أكلت من زرع أولئك فلولا أنهم كانوا يعلمون أن للاقارب حقوق مالية علي بعضهم البعض وأن صلة الأرحام إنما هي باليد وليست بالرجل ولو علم الناس ذلك لتنافسوا علي ايتاء الأقارب ولفتح الله علي الناس بركات السماء والأرض ولذلك نحن علي يقين من أن الكوارث التي تنزل بالأمة من حروب وزلازل وحرق وغرق إنما بسبب منع الخير عن الأقارب (قطع الأرحام) لقد ذكرتم أن الحرب عملت صلة رحم إجبارية نعم صحيح فالناس أنفقوا علي أقاربهم فماذا كانت النتيجة لقد حدثت انهيارات في بعض المنازل بالولاية الشمالية قبل عام فبررت السلطات عدم استعدادها لما حدث بأن "الأمطار كانت غير مسبوقة وأنه لم تأت أمطار مثلها منذ أكثر من مائة عام" طبعا المطر غيث والسبب بسيط وهو أن الأمطار كانت غير مسبوقة لأن الإنفاق كان غير مسبوق خاصة علي الأقرباء المحتاجين
الأخ الدكتور .. أرجو أن تتعاونوا معنا علي تصحيح هذه المفاهيم للناس ترغيبا وترهيبا لأن الناس إن لم يذعنوا للحق فهذه مجلبة للمصائب .. نعوذ بالله ولقد قابلني فعلا بعض من رفض اقوالا باستدلالات واضحة من الكتاب والسنة بحجة أن بعض العلماء المعروفين لهم أقوال مخالفة لها وهذه مصيبة المصائب؛ ففي [السجدة]: {وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـَٔایَـٰتِ رَبِّهِۦ ثُمَّ أَعۡرَضَ عَنۡهَاۤۚ إِنَّا مِنَ ٱلۡمُجۡرِمِینَ مُنتَقِمُونَ}
□■□■□■ نذكّر بالدعاء علي الظالمين فهو دعاء لا شك مستجاب الذين أخرجوا الناس من ديارهم بغير حق وسفكوا الدماء وانتهكو الأعراض وأخذوا الممتلكات وساموا الناس سوء العذاب
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة