يمثّل كتاب "الدولة ما بعد الاستعمار في السودان- عوامل النشوء والانحدار" للدكتور التجاني الحاج عبدالرحمن إضافة فكرية رصينة للمكتبة السياسية السودانية. فالكتاب لا يتعامل مع تاريخ الدولة السودانية كمسار متقطع قائم على الانقلابات والتحولات الظرفية، بل كعملية تاريخية ممتدة تشكلت فيها البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية عبر تراكمات تعود جذورها إلى الحقبة الاستعمارية وما قبلها.
الاستعمار خارج الباب… لكن الدولة التي تركها بقيت في الداخل يقدّم الكتاب أطروحة جوهرية مفادها أن خروج الاستعمار في 1956 لم يرافقه تفكيك حقيقي لجهاز الدولة الاستعماري. فقد ورثت النخب الوطنية جهازًا إداريًا وأمنيًا واقتصاديًا صُمم لغايات السيطرة، ولم تُعِد بناءه بما يعكس واقع المجتمع السوداني وتنوعه العميق أخطر ما يبرزه المؤلف أن المركزية الشديدة التراتبية البيروقراطية الاقتصاد الاستخراجي المرتبط بالخارج السياسة الهوياتية المُقسِّمة للأقاليم كلها لم تُبنَ بعد الاستقلال، بل انتقلت كما هي تقريبًا، وإن بأغطية وطنية مختلفة النخب الحاكمة- تبدّل الواجهات وثبات الجوهر يعرض الكتاب نقدًا معمقًا للأنظمة المتعاقبة – ديمقراطية وعسكرية، مدنية وإسلامية – ليؤكد أن خلافاتها بقيت على مستوى الشعارات، بينما ظل البناء العميق للدولة واحدًا نقطة الاتفاق الأساسية بين كل الأنظمة- عجزها عن إعادة تأسيس الدولة بما يتجاوز النموذج الذي خلّفه الاستعمار. نظام الإنقاذ، على سبيل المثال، رغم خطابه "الثوري" و"التجديدي"، انتهى إلى إعادة إنتاج الهياكل القديمة بقالب أشد مركزة وقمعًا، مستندًا إلى اقتصاد ريعي قائم على النفط وتحالفات اجتماعية جديدة استفادت من السلطة والمال معًا. البنية العميقة للأزمة: أربع علل كبرى نخبة ضيقة تتحكم في الدولة والمجتمع يكشف المؤلف عن تحالف تاريخي بين البيروقراطية والجيش والاقتصاد التجاري الطفيلي، تحالف ظل يوجّه الدولة وفق مصالحه بغض النظر عن أيديولوجيات الحكام. هوية وطنية غير مكتملة الدولة بعد الاستعمار فشلت في صياغة مشروع وطني جامع، وظلت تعتمد خطابًا أحاديًا أقصى مجموعات واسعة من الهوية الوطنية، مما عمّق التوترات وأشعل الحروب. اقتصاد الريع والتبعية من القطن إلى النفط، ظل الاقتصاد قائمًا على التصدير الخام دون بناء قاعدة إنتاجية، ما عزز التبعية للخارج والفجوة بين المركز والأطراف. عسكرة السياسة وتحويل الجيش إلى لاعب سلطوي يرصد الكتاب تطور الانقلاب العسكري من حدث استثنائي إلى آلية منظمة لإعادة توزيع السلطة داخل النخبة الحاكمة، مما أضعف المؤسسية المدنية وأدخل البلاد في دوامة الانقلابات. إعادة تأسيس الدولة: رؤية تتجاوز الترقيعات يرى الكتاب أن السودان لا يحتاج إلى إصلاحات سطحية، بل إلى مشروع تأسيسي جديد يشمل: الاعتراف الكامل بالتعدد الثقافي والإثني توزيع عادل للثروة والسلطة تحول ديمقراطي فعلي لا يستند فقط إلى الانتخابات بناء اقتصاد إنتاجي يحرر البلاد من التبعية إعادة تعريف دور الجيش وفق عقيدة وطنية لا سياسية هذه الرؤية تتحرك من تشخيص دقيق للواقع نحو مشروع يفتح أفق بناء دولة حديثة تستند إلى المواطنة لا الامتيازات التاريخية. القيمة العلمية: السودان في مرآة العالم ما بعد الاستعمار يطوّر المؤلف إطارًا مقارنًا يربط بين التجربة السودانية وتجارب الدول التي خرجت من الاستعمار ولم تُعد تأسيس دولها جذريًا، فيقدم تحليلًا يجمع السياسة والاقتصاد والسوسيولوجيا تفسيرًا بنيويًا لانفصال الجنوب واستمرار الصراعات إطارًا لفهم ثورات الشعب السوداني المتكررة قراءة مستقبلية تساعد في بناء رؤية جديدة للدولة خاتمة: كتاب يضيء الطريق لفهم الماضي واستشراف المستقبل يأتي كتاب "الدولة ما بعد الاستعمار في السودان" كواحد من أبرز الأعمال التي شرحت، بعمق فكري ومنهج نقدي، سبب تعثّر الدولة السودانية عبر ستة عقود. وهو بذلك ليس مجرد قراءة في التاريخ بل مساهمة فكرية في إعادة طرح سؤال الدولة من جديد: كيف نعيد بناءها؟ ولمن تكون؟ وبأي عقد اجتماعي جديد؟ بهذا التحليل، يصبح الكتاب مرجعًا حقيقيًا لكل باحث وناشط وصانع قرار يسأل , لماذا انتهت كل مشروعات الحكم في السودان إلى الفشل؟ و كيف يمكن للدولة أن تُعاد إلى مسارها الوطني الصحيح؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة