تأتي مقترحات مساعد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، مسعد بولس، لوقف إطلاق النار في السودان كبصيص أمل يُسلط الضوء على إمكانية إنهاء الصراع الدائر. إلا أن هذه المبادرة تواجه سياقاً معقداً للغاية، يتطلب فهماً عميقاً ومتجدداً للتحديات الجذرية التي يواجهها الواقع السوداني، بعيداً عن الحلول الجاهزة والتصورات المُسبقة.
فغالباً ما تُسيطر على أطراف صنع القرار الدولي والإقليمي تصورات خاطئة، تكون متأثرة بتحيزات نحو حلفاء إقليميين لدواعٍ اقتصادية وسياسية ضيقة. ويتم توظيف النفوذ المالي والدبلوماسي للضغط من أجل تبني رؤى تنبع من حسابات خارجية، وهي بعيدة عن تعقيدات المشهد السوداني، مما يقوض منذ البداية أي فرصة لبناء سلام حقيقي ومستدام.
لقد أفرزت الحرب واقعاً مأساوياً جديداً ومروّعاً، يهدد تماسك النسيج الاجتماعي في السودان بل ويمزقه. ويتسم هذا الواقع بفظائع وصفت بأنها نادرة في التاريخ البشري المعاصر، تشمل انتهاكات منهجية وحشية لحقوق الإنسان، من القتل والتعذيب والنهب المنظم، وصولاً إلى جرائم الاغتصاب وبيع النساء في الأسواق، وتعذيب الأسرى وحرق جثثهم في محاولة يائسة لإخفاء الأدلة. هذا المشهد الكارثي يحتم البحث عن حلول جذرية لا ترقيعية.
ومفتاح أي حل ناجح يكمن في الفهم العميق للواقع المتغير، حيث لا يمكن لأي عملية تسوية تهدف لإنهاء الحرب أن تستند إلى تصورات عفا عليها الزمن أو إلى سباقات الماضي السياسية. بل يجب أن تُبنى على قراءة دقيقة وحساسة للمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمعنوية للشعب السوداني، الذي تحمل ويلات الحرب. هذا الفهم وحده هو المدخل السليم لوضع حلول تستأصل جذور الأزمة وتمنع عودة النزاع بشكل قد يكون أكثر تدميراً.
ضمن هذا الإطار، تظهر محدودية المقترحات السطحية أو ذات الأجندة الضيقة، مثل ما يُشار إليه بـ"البيان الرباعي"، الذي يبدو في جوهره كمسعى للإبقاء على الهيكل الحالي القائم على تقاسم السلطة والموارد بين قوتي الجيش والدعم السريع فقط. لكن الصراع اليوم تجاوز هذا الإطار الضيق؛ فهو لم يعد صراعاً على سلطة بين طرفين، بل تحوّل إلى أزمة وجودية تمس بقاء الدولة السودانية الموحدة وسلامة أراضيها وهيبتها. لذلك، فإن الحل الحقيقي يجب أن يبدأ من نقطة أبعد، وهي بناء أسس جديدة للدولة والمواطنة، تُستقى من رؤى وتطلعات المجتمعات المحلية والنسيج الاجتماعي، وليس من رؤى النخب والمكونات السياسية المنقسمة على نفسها.
وتكمن أحد المآزق الكبرى في أن العديد من هذه التحالفات والأحزاب السياسية تقدم شعارات ورؤى لا علاقة حقيقية لها ببناء الوطن أو تحقيق التحول الديمقراطي المنشود. وكما يقول المثل العربي السائر "فاقد الشيء لا يعطيه"، فإن العديد من هذه الكيانات تفتقر في داخلها إلى أبسط مبادئ الممارسة الديمقراطية والحوكمة الرشيدة، وتخلو من رؤية واضحة لبناء دولة المؤسسات. بل إنها غالباً ما تقوم بتشريح الواقع وتفسيره بما يتوافق مع مصالحها الضيقة وأهواء قادتها، مما يجعلها عاجزة عن قيادة أي تحول ديمقراطي حقيقي.
من هنا، فإن الطريق نحو تسوية جذرية لا بد أن يمر عبر بوابة الحوار الاجتماعي الشامل والعميق، وليس المفاوضات السياسية المغلفة بين النخب. ولا يمكن تأسيس نظام ديمقراطي شرعي ومستقر دون تسوية وطنية عريضة القاعدة. يجب أن يبدأ هذا الحوار المجتمعي بمعاللة القلب النابض للأزمة: الإشكاليات الأمنية. ويتطلب ذلك التفكير في كيفية بناء مؤسسة أمنية وطنية موحدة، مهنية، تحمي الدستور وتدافع عن سيادة الدولة وحدودها، وتكون خاضعة للسلطة المدنية، وبعيدة عن التجاذبات السياسية والولاءات الإثنية أو العرقية أو الجهوية. هذا التحول الجوهري يحتاج إلى مقاربات نظرية وعملية جديدة في مفهوم الأمن الوطني، قادرة على كسر حواجز الولاءات الفرعية لصالح الانتماء الوطني الجامع، وهو تحدٍّ ضخم بحد ذاته.
وفي الخلاصة، يجب أن تنطلق العملية السياسية الحقيقية من حوار يعبر عن إرادة وتطلعات مجتمعات الأقاليم والسودانيين بمختلف فئاتهم، ليكون دور الأحزاب والقوى السياسية التقليدية مكملاً ومسهلاً، لا مسيطراً ومنتجاً للحلول من داخل غرف مغلقة. فالتجارب التاريخية في السودان وخارجه تثبت أن الحلول "المصنوعة من قمة الهرم" غالباً ما تكون هشة وقصيرة الأمد، وعرضة للانهيار مع أول أزمة. مستقبل السودان يحتاج، أكثر من أي وقت مضى، إلى اتفاقية سلام وطنية تستند إلى إرادة شعبه الجريح وإلى الاعتراف بواقعه المعقد، لا إلى حسابات ومصالح خارجية أو أجندات نخب منفصلة عن هموم الناس. مقترحات مثل مقترحات بولس قد تفتح نافذة للتهدئة، لكن النافذة الحقيقية للسلام الدائم ستُفتح من داخل السودان نفسه.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة