هناك لحظات في تاريخ الشعوب تصبح فيها رائحة الهواء جزءاً من الذاكرة الجماعية المنهكة. رائحة تشبه الخوف، بل إن شئت قل الرعب والفزع، وتُشبه الأسئلة التي لا تجد لها طريقاً سوى صعود الروح إلى السماء، مع بقاء الجسد تحت طبقة الأرض وربما فوقها دون جنازة لائقة. وفي السودان، حيث الحرب تلتهم المدن كما يلتهم الجفاف ضفاف النيل، تتصاعد اليوم اتهامات مسنودة بأدلة من منظمات إنسانية تشير إلى احتمال استخدام جيش البرهان وميليشياته، مواد كيمياوية،خاصة غاز الكلور الصناعي، في الخرطوم ودارفور وكردفان. هي اتهامات لم تثبت بعد أمام لجان تحقيق دولية متخصصة، لكنها ثقيلة بما يكفي لتهز الضمير العالمي قبل أن تهز أركان القانون. نعم هو ادعاء مسنود بأدلة معتبرة تعزز احتماله وفقا لمعادلات القانون لا السياسة.
في الممر الضيق بين البراءة والاتهام، يقف الضحايا وحدهم. لا يملكون سوى أنفاسهم، وهي أنفاس قيل طبيا وسريرياً إن بعضها اختنق بين غيمة صفراء ورائحة حارقة. هنا لا يعود الحديث عن نصوص قانونية باردة، بل عن بشر حاولوا النجاة من حرب، فإذا بالحرب تلاحقهم في الهواء الذي يتنفسونه. والماء الذي تغيرت خصائصه وأصبح له لون كلون الدماء، بل اشد قتامة. وما بين المادة (1) من اتفاقية حظر الأسلحة الكيمياوية، التي تجرّم استخدام هذه الأدوات القاتلة بأشد العبارات، وصرخات أم فقدت طفلها بلا جرح ظاهر، يتجلى المعنى الحقيقي للعدالة الغائبة. تلك العدالة التي تنفض الغبار عن الضحايا "الأرقام" لتحولهم إلى رسم وجسم واسم وكيان.
إن خطورة هذه الاتهامات لا تكمن فقط في مضمونها، بل في رمزيتها أيضاً. فمنذ أن كتب العالم قوانين تحظر الأسلحة الكيمياوية، كان واضحاً أن هذا السلاح ليس مجرد أداة قتل، بل وصمة عار في جبين الإنسانية، وخط أحمر فاصل بين الحياة والموت، بل أم الجرائم الكبرى التي ترتجف لها قاعات الأمم المتحدة قبل أن ترتجف لها جدران البيوت الطينية البائسة في أطراف السودان ومدنه وقراه القصية. فالمجتمع الدولي، رغم تناقضاته، لم يغفر لصدام حسين مأسأة حلبجة، ولا مرّ مرور الكرام على ما نُسب إلى النظام السوري في الغوطة وخان شيخون. استخدام الكيمياوي لطالما كان الحد الذي تنقلب بعده موازين السياسة، ويتحوّل الاتهام إلى محكمة، والصمت إلى قرار.
ومع كل هذا، تبقى الحقيقة القانونية رهينة التحقيق العلمي وحده. وحدها منظمة حظر الأسلحة الكيمياوية، بفرقها وخبراتها، قادرة على أن تجعل من هذه الاتهامات إما حقيقة دامغة أو افتراضاً زائلاً. ومع ذلك، فإن واجب العالم لا يبدأ ولا ينتهي بنتيجة التحقيق؛ بل يبدأ من الإصغاء لوجع الإنسان الذي يعيش الحرب بلا غطاء، ويخشى الهواء والماء كما يخشى الرصاص.
فالسودان اليوم ليس مجرد مسرح لنزاع مسلح، بل مرآة لقصور العالم في حماية المدنيين حين تنهار الدولة وتتعدد الجيوش وتختلط الخطوط. وفي ظل هذا الخراب، تصبح الاتهامات باستخدام مواد كيمياوية أشبه بطعنة إضافية في جسدٍ أنهكته الحروب. وإذا ما ثبتت، فإنها لن تكون مجرد خرق لاتفاقية دولية، بل خيانة لأبسط ما تبقى من معنى الإنسانية.
وفي مقابلة تلفزيونية على قناة سكاي نيوز عربية، استدعت المحامية رحاب المبارك إلى الواجهة خريطةً من المواضع التي ترددت حولها تقارير استخدام الأسلحة الكيميائية. فذكرت جبل موية وكرري ومصفاة الجيلي، إلى جانب ما أوردته منظمة العفو الدولية في تقاريرها حول ولاية الجزيرة ومناطق كبكابية، والكومة. تلك الأماكن التي استحالت، وفق ما نُقل، إلى مسارح لصمت ثقيل: نفوق الأغنام، واختفاء الطيور، وامتداد جثث الثعابين والفئران كأن الأرض لفظت أسرارها دفعةً واحدة.
وعندما سُئلت المبارك عن الخيط الذي يجمع بين هذه الجغرافيا المتناثرة، أشارت إلى وجود قوات الدعم السريع في بعضها كالخرطوم، معتبرةً أن ما يحدث يندرج ضمن ما وصفته بـ الحرب المجتمعية التي أعادت رسم خطوط الاستهداف، فامتد أثرها من غرب البلاد إلى قلب الخرطوم. وهكذا، بدت شهادتها كنافذة على مشهد أعقد من تفاصيله الظاهرة، حيث تتجاور الرواية الإنسانية مع تقارير المراقبة الدولية، في زمن تتداخل فيه الحقائق بالرماد.
وفي انتظار أن يقول التحقيق الدولي كلمته، يبقى التضامن مع الضحايا ليس ترفاً لغوياً أو الكتابة من أجل تزجية النفس، بل ضرورة أخلاقية ملزمة. هم الذين يواجهون الموت بصدور عارية، وهم الذين لا يسمع العالم أصواتهم إلا حين تتصاعد رائحة الهواء المحترق. ما يحدث في السودان ليس مجرد شأن داخلي يخصنا نحن وحدنا كسودانيين؛ إنه اختبار جديد لمدى صدق البشرية حين تقول كلمتها بصدق إن الكرامة الإنسانية لا تُجزّأ، وإن القانون ليس حبراً على ورق، بل هو قيد على حرية المجرمين المعلومين اسما وكياناً.
حتى ذلك الحين، سيظل السؤال معلّقاً في سماء مثقلة بالغبار القاتل: هل كتب لإنسان السودان أن يُحاسب على الهواء الذي يتنفسه بالموت الزؤام؟ وهل يحق للعالم أن يشيح بنظره بينما يختنق الأبرياء في صمت صاخب؟ إن العدالة ليست فقط نصوصاً تُدوّن، بل ضوءاً يُضاء فوق أماكن الألم كي لا يبتلعها النسيان.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة