لم تكن “المؤامرة الخارجية” مجرد شعار سياسي يتيم… كانت مشروعًا كاملًا. مشروعًا صُمّم بعناية لتغطية جريمة كبرى ارتكبها الكيزان: تحويل السودان إلى ساحة مغلقة، تُدار فيها الصراعات وتُنهب فيها الموارد بينما يُلقى باللوم على العالم الخارجي. منذ بداية التسعينيات، أدرك الإسلاميون أن بناء دولة موازية داخل الدولة لن ينجح إلا إذا تمّ شلّ وعي الجمهور. فابتكروا رواية كبرى أسطورة كاملة تقول إن السودان محاط بالأعداء، مراقَب من كل الاتجاهات، مُستهدف لثرواته وموقعه. وهكذا صار المواطن السوداني ينام ويصحى على خطاب واحد: “الخطر قادم من الخارج.” لكن أي مؤامرة تلك التي يُحكى عنها بينما الجرح الحقيقي ينزف من الداخل؟ كان الكيزان في الواقع يصنعون شيئًا آخر تمامًا. كانوا يبنون شبكة نفوذ تتداخل مع أجهزة الأمن والاستخبارات، تتغلغل في الاقتصاد، وتخترق المجتمع. كانوا يفتعلون أزمات مع دول الجوار، يدخلون في صفقات تسليح مظلمة، يرعون مجموعات متطرفة، ويتورطون في عمليات زعزعة استقرار كادت أن تشعل المنطقة كلها. ثم وفي مفارقة سوداء كانوا يحوّلون نتائج فوضاهم إلى “دليل” على أن العالم يتآمر على السودان. بهذه الطريقة صار المواطن يرى الخراب لكن يُمنع من رؤية الفاعل. يسمع الانفجار لكنه لا يسمع من وضع العبوة. وحين يسأل: “من المسؤول؟” يأتيه الجواب جاهزًا: "دول غربية… مخابرات… إسرائيل… أمريكا… دول الجوار…" وكلها روايات تُستخدم لدفن الحقيقة: أن الكيزان هم الذين فجّروا السودان من الداخل، ثم ألقوا الرماد في العيون. القصة الأخطر ليست أنهم اخترعوا أكذوبة… القصة أن الأكذوبة صنعت واقعًا كاملاً. فباسم “المؤامرة الخارجية” تم ضرب الاقتصاد، تصفية الخدمة المدنية، إنشاء ، تسخير الجيش لأجندة حزبية، وإعدام أي صوت معارض. وباسم المؤامرة تمّ تمرير جرائم كبرى: الإخفاء القسري، التعذيب، اغتيالات سياسية، تهريب ذهب، وعمليات تمويل خارجي لم يُكشف منها إلا القليل. ولأن الأكذوبة لم تكن تكفي، تمّ تشكيل خطاب نفسي يستثمر في الخوف. خطاب يجعل المواطن يعتقد أن انتقاد النظام خيانة، وأن كشف الفساد اصطفاف مع “العدو”، وأن المطالبة بالحرية تفتح الباب للتدخل الأجنبي. هكذا صار القمع فعلًا وطنيًا، وتخريب الدولة دفاعًا عن السيادة، وسرقة الموارد موقفًا ضد “الاستعمار”. ومع ذلك… في استمرار هذه الحرب، بدأت الرواية القديمة تستعيد مكانها من جديد. كلما ظهر حديث جدي عن سلام، تعود ماكينة التخويف للعمل: نفس خطاب المؤامرة، نفس الأكاذيب، ونفس أسلوب التخوين. اليوم يُعاد إنتاج نفس المشهد تمامًا كما فُعل مع فولكر والآن يُوجَّه ضد بولس، فقط لأن الرجل يتحدث عن وقف الحرب وإيجاد مخرج للبلد. القصة الحقيقية ليست “كيف تآمر العالم على السودان” بل: كيف تآمر الكيزان على السودان… وعلى العالم كله أيضاً. ولو أراد السوداني أن يعرف من أين بدأت الكارثة، فلا يحتاج للنظر خلف الحدود… بل يكفي أن ينظر إلى آثار ثلاثين سنة من الأكاذيب، التمكين، والخراب الذي حمل اسمًا واحدًا: وهم المؤامرة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة