خامساً: جميع الأطراف ارتكبت جرائم في السودان، وكاذب من يدعي بغير هذا - والعدالة يجب أن تكون شاملة، متكافئة، وغير انتقائية. إن أول قاعدة أخلاقية وقانونية في الجرائم الكبرى، وخاصة جرائم العنف الجنسي، هي أن الضحايا لا يُصنَّفون بحسب الخصوم، بل بحسب الجريمة ذاتها. وإذا كان هناك مبدأ لا يقبل المساومة فهو أن الاغتصاب، في أي ظرف وتحت أي راية، جريمة مطلقة وغير قابلة للتبرير أو التخفيف. فالحقيقة القانونية القاطعة في الحرب السودانية الراهنة أن لا طرف مسلّح يتمتع بالبراءة المطلقة: - وثقت الأمم المتحدة حالات اغتصاب على يد عناصر من الجيش السوداني، سواء في سياق الاعتقال، أو أثناء عمليات تمشيط حضري، أو في إطار "التأديب الجماعي" لسكان مناطق معينة. - وثقت جهات دولية ومحلية جرائم اغتصاب ارتكبها عناصر من قوات الدعم السريع، بعضها فردي وبعضها ممنهج، خاصة أثناء محاصرة المنازل أو احتلال الأحياء. - وثّقت حالات ارتكبتها ميليشيات إسلامية متطرفة مرتبطة بالجيش أو تعمل على هامشه، في عمليات تستهدف مجتمعات يرتبط أبناؤها بالدعم السريع جراء الحرب الاخيرة، أو تُعتبر "غير منسجمة" مع مشروع الدولة المركزية الحالية. - ورُصدت اعتداءات جنسية في مناطق الكنابي والقرى الريفية حيث تُعامل أجساد النساء باعتبارها امتداداً لـ”هوية العدو” أو "اثنية يجب إذلالاها". - رصدت المنظمات جرائم اغتصاب في كل مدن السودان تحت قبضة الجيش تجاه مجتمعات من الهامش لاتنتمي للمجتمعات الاثنية للدعم السريع ولكن تم اتهامهن بالمتعاونات مع الدعم السريع، وعدد كبير منهن يعملن في المهن الهامشية كبيع الشاي والاطعمة في مناطق وقعت تحت قبضة الدعم السريع في وقت ما. هذه الوقائع ليست محل انطباع أو دعاية؛ إنها توثيقات قانونية يصعب إنكارها. ولهذا فإن أي محاولة لتجميد الجريمة عند طرف واحد، أو استخدامها كسلاح دعائي لحظي، ليست دفاعاً عن الضحايا، بل ابتذال للجريمة نفسها وإعادة اغتصاب للضحايا بصورة رمزية: تُسلب معاناتهم من سياقها الحقوقي، وتُستبدل بتاريخهم ومأساتهم بتغريدة أو منشور أو خطاب تلفزيوني.
لماذا يرفض الجيش السوداني والنخب السودانية لجان التحقيق الدولية؟ من منظور قانوني دولي، رفض لجنة تحقيق مستقلة لا يشكّل موقفاً سياسياً عابراً، بل قرينة على الخشية من المساءلة. فإذا كان الجيش السوداني متيقّناً من عدم مسؤوليته عن الانتهاكات، فإن المنطق القانوني يُحتّم عليه القبول بجهة محايدة، لأن التحقيق المستقل هو الطريق الوحيد لتأكيد البراءة على أساس أدلة سليمة، وليس عبر خطاب إعلامي أو سلطوي. القانون الدولي الإنساني، كما ورد في اتفاقيات جنيف، يقوم على مبدأ حاسم: كشف ملابسات الجريمة شرط جوهري لمنع تكرارها. وقد عبّرت القاضية الجنوب إفريقية نَفّي بيلّي (Navanethem Pillay) رئيسة المحكمة الجنائية الدولية لرواندا، عن هذا الجوهر بقولها: "الحقيقة ليست انتقاماً، بل ضمانة مستقبلية ضد تكرار الجريمة." إن رفض لجان التحقيق الدولية في السودان يعكس بنية خوف مزدوج: - ليس خوف الجيش من إدانة خصومه (الدعم السريع) - بل خوفه من فتح ملفه هو نفسه: سلسلة القيادة، أوامر العمليات، ومسؤوليات الضباط الذين ساهموا في الانتهاكات أو سكتوا عنها.
طبيعة لجان التحقيق الدولية: ليست خصومة سياسية بل منهج قانوني: لجان التحقيق الدولية لا تعمل بمنطق "العدو/الحليف"، ولا تتحرك وفق حسابات السلطة المحلية. إنّها تعتمد منهجاً قانونياً صارماً يقوم على أربع ركائز: - نمطيّة الانتهاك: هل العنف فردي أم منهجي؟ - تسلسل القيادة: من أعطى الأوامر؟ من كان على علم؟ من تقاعس؟ - المسؤولية المؤسسية: كيف وفّرت أجهزة الدولة البيئة المحفزة للجريمة؟ - الأدلة الجنائية الدولية: الشهادات المتقاطعة، الوثائق، الصور، والأوامر العسكرية. هذه منهجية، إذا طُبّقت على السودان، ستقود بالضرورة إلى أسئلة تقضّ مضاجع السلطة المركزية: - من صاغ سياسة الأرض المحروقة في دارفور؟ - من شرعن استخدام الاغتصاب كسلاح حرب؟ - من رسّخ ثقافة الإفلات من العقاب منذ الثمانينيات؟ - من موّل، سلّح، أو غضّ الطرف داخل المؤسسة العسكرية؟ الجنرال الذي يدرك أن هذه الأسئلة ستُطرح أمام قاضٍ دولي - لا أمام صحفي أو مسؤول استخباراتي - يعرف أن ذريعة "محاربة التمرّد" لن تنقذه من توصيف جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، وربما إبادة جماعية. كما قال وزير العدل الأمريكي الأسبق روبرت جاكسون عندما ترأس الادعاء في نورمبرغ: لا يُحاكم القادة لأنهم خسروا الحرب، بل لأنهم ارتكبوا "جرائم باسم الدولة."
النخب المتحالفة والمتواطئة مع الجيش: الصمت كأداة سلطة: الصمت السياسي ليس موقفاً محايداً بل اختيار أخلاقي. النخب التي تحتجّ على انتهاكات تُنسب لخصومها، ثم تصمت حين تقع انتهاكات قرب معسكرات الجيش، تمارس ما يسميه ميشيل فوكو بـ"سياسات الجسد" حيث تُحدَّد قيمة الضحية وفق موقعها في شبكة السلطة، لا وفق إنسانيتها. فالضحايا هنا ليسوا بشراً، بل أدوات تعبئة، تُستدعى حين تخدم مشروعاً سياسياً معيناً، وتُدفن أصواتهم حين تهدد هذا المشروع. هذا النمط ليس سودانياً محضاً. في غواتيمالا مثلاً، استُخدم خطاب حماية الدولة لتبرير مذابح ضد السكان الأصليين، بينما تمّ إسكات النساء اللواتي اغتُصبن. وحدهن أصوات مثل الناشطة والزعيمة الريجوبيرتا مينشو (Rigoberta Menchú) كسرت الصمت. حصلت مينشو على جائزة نوبل للسلام لأنها طالبت بتحقيقات دولية وباعتراف الدولة بجرائمها ضد المايا. قالت في خطابها التاريخي عام 1992 "لن يكون السلام إلا حين يعرف العالم ما حدث حقاً - ومن فعل ذلك"
أمثلة نسائية إفريقية وعالمية على مقاومة الإنكار: - وينّي ماندلا- رغم الجدل حولها- كانت من أوائل من طالبوا بـكشف علني وعادل لانتهاكات نظام الأبارتايد، معتبرة أن "عدالة الرجال البيض داخل مؤسساتهم لن تكفي" وأن الحقيقة يجب أن تُستعاد لصالح ضحايا الريف والبلدات السوداء.
- إلين جونسون سيرليف، أول امرأة تُنتخب لمنصب رئيس الدولة في القارة الإفريقية، واجهت ماضي بلادها بقدر من الشجاعة السياسية نادر في تاريخ ما بعد النزاعات. فرغم أنّها كانت جزءاً من النخبة السياسية التي استفادت، بدرجات مختلفة، من البنى التي سبقت الحرب الأهلية في ليبيريا، فإنها وافقت على إنشاء لجنة الحقيقة والمصالحة الليبيرية عام 2006 وتعاونت معها خلال فترة رئاستها الأولى. كان ذلك إقراراً بأن بناء الدولة لا يقوم على إنكار الذات أو دفن الذاكرة، بل على مواجهة الإرث المؤلم علناً، بما في ذلك مسؤوليات من كانوا داخل السلطة نفسها. هذه الخطوة كانت ذات دلالة مزدوجة: أولاً، أنها فتحت الباب أمام التحقيق في أنماط الانتهاكات، لا فقط لدى خصوم النظام السابق، بل أيضاً داخل النخب التي حكمت أو سكتت، بما فيها شخصيات بارزة في الدولة. وثانياً، أنها جسّدت الفكرة التي صاغها الفيلسوف كارل ياسبرز بعد الحرب العالمية الثانية: "لا تصبح الأمة حرّة إلا حين تواجه ذنبها، لا حين تنكره." من خلال هذه المقاربة، قدّمت سيرليف نموذجاً لاعتراف النخب بمسؤولياتها التاريخية، ولو كان ذلك على حساب سمعتها السياسية، باعتبار أن الحقيقة شرط تأسيسي للسلام، وليس مجرّد تنازل أخلاقي أو مناورة سياسية. هذه التجربة الليبيرية - بكل ما فيها من تعقيدات - تؤكد أن مواجهة الماضي لا تعني تبرئة الذات، بل الاعتراف بما هو موجع، وتحويل ذلك الاعتراف إلى مسار عدالة يمنع تكرار العنف، ويعيد للضحايا مكانتهم داخل تصور الدولة الجديدة.
- نافال القرعاوي من تشاد، ناشطة ضد العنف الجنسي المسلح، دفعت بقوة نحو توثيق الجرائم من مصادر محايدة، قائلة "حين يصمت القادة، تتكلم أجساد النساء." هذه التجارب تثبت أن العدالة ليست انتصاراً على الخصم، بل تحرراً من إرث الدولة المعتدي.
الحجة القانونية المحكمة: لماذا يجب على السودان قبول تحقيق دولي؟ وفق المادة 146 من اتفاقية جنيف الرابعة، الدول ملزمة بالتحقيق ومحاكمة مرتكبي الجرائم الجسيمة أو تسليمهم لمحكمة مختصة. وبموجب مبدأ الولاية العالمية، يحق لأي دولة أن تحاكم مرتكبي جرائم الحرب حتی إن لم تقع على أراضيها، إذا امتنعت الدولة الأصلية عن القيام بواجبها. وبالتالي، قطع مسار التحقيق الدولي ليس حماية للوطن، بل عرقلة لالتزام قانوني دولي واجب. القانون لا يسأل: من انتصر؟ يسأل: من اعتدى؟ من أمر؟ من سكت؟ من استفاد؟ ومن استخدم الأسلحة المحرمة حتي!؟ هذه الأسئلة لا يمكن الإجابة عنها عبر الإعلام أو دعاية الحرب. وحدها جهة مستقلة قادرة على حماية الأدلة، وتحويل الشهادات إلى حجج قانونية، وضمان ألا تكون ذاكرة الضحايا مجرد شعار سياسي عابر.
أخيرا: رفض الجيش السوداني للتحقيق الدولي ليس دفاعاً عن الشرف المؤسسي؛ بل رفضٌ لمواجهة تاريخ بنيوي من العنف الذي مارسته الدولة. وصمت النخب المتحالفة معه ليس حياداً؛ بل خيانة لجوهر العدالة. إن السؤال لم يعد: "من اغتصب ضحايانا؟" بل: "من ترك ضحايا آخرين بلا حماية لعقود؟ ومن قرر أن أجساد بعض النساء أرخص من أجساد أخريات؟" العدالة التي لا تواجه هذه الأسئلة لن تُنقذ السودان، بل ستعيد إنتاج جراحه بصورة أكثر قسوة.
المفارقة: كيف يتحول الاغتصاب من جريمة إلى ابتزاز سياسي؟ تقدم التجارب الإنسانية أمثلة دامغة: - في البوسنة والهرسك، لجأ القوميون إلى تضخيم الجرائم ضد جماعتهم، بينما حجبوا الجرائم التي ارتكبها مقاتلوهم، فتحوّل الاغتصاب إلى أداة بروباغندا قومية. - في رواندا، استُخدمت الجرائم الجنسية لتبرير القتل الانتقامي، لا لإنصاف الضحايا - في الكونغو، تحولت شهادات النساء إلى أوراق تفاوض، لا إلى محاكمات! وفي السودان، تم ويتم فعل الشيء ذاته: لما كان الاغتصاب يقع على نساء دارفور، جبال النوبة والنيل الأزرق ومن قبل الجنوب كمناطق مهمشة، كان الصمت هو القاعدة؛ أما عندما طال نساء الخرطوم أو الجزيرة، او المدن التي تريد الخرطوم استمرار السيطرة عليها كالفاشر- و"التي وقعت فيها جرائم يجب ان يتم التحقيق فيها وتدان وتجد العدالة" صار الموضوع مادة دعائية تُستخدم لتبييض تحالفات عسكرية أو لتبرير مذبحة سياسية!
الحجة القانونية والأخلاقية القاطعة: العدالة لا تعرف طرفاً مفضلاً. العدالة تعرف الجريمة فقط. إذا ارتكب الجيش اغتصاباً، فيُحاسب. إذا ارتكبه الدعم السريع، يُحاسب. إذا ارتكبته الميليشيات المتحالفة، تُحاسب. وإذا غضّت النخب الطرف عنه أو استخدمته كسلاح سياسي، فهي شريكة في خيانة الضحايا. إن رفض التحقيق الدولي - سواء من الجيش أو من أي سلطة قامت على حرب الهوية - ليس دفاعاً عن السيادة، بل محاولة استباقية للهرب من التاريخ. وكل من يستثمر في جريمة كهذه لتحقيق مكاسب سياسية، هو من نفس معدن من ارتكبها: لا يرى في الجسد الإنساني قيمة، ولا يرى في الضحية إنساناً، بل يرى وسيلة للدعاية وذخيرة للحرب، والعار علي هؤلاء!
في الختام: إن جريمة الاغتصاب في النزاعات المسلحة ليست حدثاً عارضاً ولا شأناً ثانوياً، بل هي واحدة من أخطر الجرائم التي تُدمِّر الأفراد والمجتمعات على حدٍّ سواء. إنها جريمة مطلقة، لا تُبرَّر، ولا تُخفَّف، ولا تُؤجَّل، ولا تُستخدم كسلاح في معارك السياسة أو الدعاية. فالاغتصاب ليس "هدفاً ضد الخصم"، وليس ذريعة لرفع الأصوات أو تسجيل النقاط؛ إنه جريمة ضد الإنسانية، وضد الضحايا، وضد المستقبل. ولهذا، فإن أي نظام - في بورتسودان أو غيرها - يرفض دخول لجان التحقيق الدولية، إنما يفعل ذلك لأنه يخشى أن تُفتح دفاتره الخاصة، لا لأنه حارسٌ على السيادة أو العدالة. وأي مثقف يصمت، أو ينتقي ضحاياه، أو يبرر جرائم طرف، إنما يعلن أن جسد المرأة لا يعنيه إلا حين يصبح قابلاً للاستثمار السياسي. وهذه خيانة مضاعفة: خيانة للفكرة، وخيانة للعدالة، وخيانة للضحايا. ومن هنا تُصبح الأسس القانونية والأخلاقية واضحة مثل ضوء النهار: - الاغتصاب جريمة مطلقة، ندينها، ولا يحق لأي جهة - جيشاً كان أو ميليشيا أو حركة - أن توظّف هذه الجريمة للدعاية أو تصفية الحسابات. هي جريمة مستقلة بذاتها، تُعرَّف وفق القانون الدولي، وتُدان بمعايير واضحة لا تقبل الالتفاف. - لا عدالة بلا محاسبة شاملة لكل الأطراف. المحاكم الوطنية وحدها لا تكفي: - لابد من لجان تقصي حقائق مستقلة ومحايدة. - ولابد من الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية عندما تعجز الدولة أو تمتنع. - تسييس جريمة الاغتصاب عمل منحط أخلاقياً من يستعمل آلام النساء للإثارة، أو للتحريض، أو لتبرير قتلٍ جديد، هو شريكٌ في منطق الجريمة نفسها. إنه لا يهتم بالضحايا، ولا بالإنصاف، ولا بكرامة الإنسان؛ ما يهمه هو بناء رواية تخدم سلاحه أو سلطته أو جماعته، والعار علي النخب الفاشلة!
- العدالة الحقيقية تبدأ بوضع الجريمة في إطارها القانوني لا الدعائي. فالقضية ليست صراعاً بين الجيش والدعم السريع، ولا تنافساً بين خطابين سياسيين؛ بل هي مواجهة بين مبدأ العدالة ومبدأ الإفلات من العقاب. وحين لا تُحاسب جميع الأطراف دون استثناء، فإن الجريمة تتكرر، لأن الجناة يتعلمون درساً واحداً: أن جسد المرأة لا يُحمى إلا عندما يخدم مصالح السلطة. ويشهد تاريخ السودان، من الجنوب إلى جبال النوبة، ومن دارفور إلى الخرطوم، أن الاغتصاب لا ينتهي بالصمت أو التجاهل أو الانتقائية، بل حين تتوقف الدولة والمجتمع عن التمييز، وتُمارس العدالة بلا خوف أو ولاء، ويُحاسَب كل الجناة، أياً كانوا. الضحايا لا يحتاجون شعارات أعلى أو ضجيجاً أقسى؛ يحتاجون ببساطة - وبقوة لا تتزحزح - إلى العدالة.
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة