مقدمة: في خضم الحرب السودانية الراهنة، تصاعدت أصوات متعددة تتناول جريمة الاغتصاب: بعضها يتناولها بصدق ومسؤولية، وبعضها الآخر بعاطفية سطحية، فيما تسعي جهات متحالفة مع سلطة بورتسودان أو تيارات الإسلام السياسي إلى توظيف تلك الجرائم لخدمة سردية الجيش والدعاية الأمنية والاستخباراتية المرتبطة به. إن هذا التنافس على آلام الضحايا يكشف هشاشة أخلاقية عميقة: فجريمة الاغتصاب ليست أداة لتسجيل النقاط السياسية، بل اختبار لطبيعتنا الإنسانية وحدودنا الأخلاقية والقانونية. وكل تعامل معها باعتبارها وسيلة شيطنة سياسية هو إهانة ثانية للضحايا، وانتهاك جديد لكرامتهم، ولكرامة كل سوداني أيا كان موقعه او موقفه من الصراع. الاغتصاب في النزاعات المسلحة ليس مجرد فعل جنائي، بل جريمة مضاعفة: انتهاك لحرمة الجسد، وانتهاك لكرامة الجماعة التي ينتمي إليها الضحية. يُمارس بهدف الإذلال، فرض الهيمنة، تفكيك البنية الاجتماعية، وإرسال رسالة سياسية عبر جسد امرأة — رسالة تقول: "قمنا باحتلالك أنت ومجتمعك وتاريخك." ولهذا يُعدّ الاغتصاب أحد أخطر أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي، لأنه يدمّر الفرد والجماعة معاً: - يُسحق الجسد بإكراه مباشر، - ويُسحق المجتمع عبر الذاكرة والعار والتفكك النفسي، - فتتحول الأجساد إلى ساحات للانتقام السياسي والرمزي المتبادل. ورغم وضوح خطورة هذه الجريمة، تحولت في السياق السوداني إلى أداة ابتذال سياسي: تُرفع حين تخدم مصالح طرف في الصراع، وتُسكت حين تقع على نساء "غير بارزات إعلامياً"، أي نساء الهامش والمجتمعات المهمشة، وهذا ليس انحيازاً للضحايا، بل تواطؤ صامت مع الجريمة؛ لأن من لا يرى الاغتصاب بعمقه الأخلاقي والتاريخي والاجتماعي، سيستخدمه كذريعة غضب سريعة أو بروباغندا عابرة، لا كفعل يستدعي العدالة ومسؤولية المبدأ. إن استخدام الاغتصاب كسلاح لغوي - كما يُستخدم كسلاح جسدي - هو وجه آخر للعنف: يُمعن في جرح الضحايا، ويجرّدهم من صوتهم، ويختزل مصائبهم إلى أدوات ضغط دعائي. وهذا السلوك، سواء أكان عن جهل أو لابتزاز سياسي، لا يقل حقارة عن الصمت: لأنه يُحوّل الجريمة إلى مسرح، ويُحوّل الضحايا إلى أدوات، ويُحوّل العدالة إلى شعارات بلا مضمون . إن التعامل مع هذه الجريمة يتطلب ذكاءً أخلاقياً، اتزاناً قانونياً، وفهماً عميقاً لسياقها التاريخي والاجتماعي، لا خفة، ولا استعجالاً للإثارة، ولا ابتزازاً باسم الغضب. فالاغتصاب ليس مادة للتهليل أو الشماتة؛ إنه لحظة انهيار كامل للقيم الإنسانية، وعلى العدالة أن تكون أول من يواجهها - لا آخر من يصل إليها.
أولاً: الاغتصاب في القانون الدولي – تعريف دقيق وإطار صارم: وفق القانون الدولي الإنساني، يشكل الاغتصاب جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية، بل وقد يرقى إلى الإبادة الجماعية عندما يُرتكب بقصد تدمير جماعة معينة. وقد نصّت على تجريم الاغتصاب بشكل واضح عدة صكوك دولية: ١/ النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (1998) – المادة 7 و8 يعرف الاغتصاب كجريمة: - ضمن الجرائم ضد الإنسانية: عندما يُرتكب ضمن هجوم واسع أو منهجي ضد السكان المدنيين - وضمن جرائم الحرب: عندما يقع في سياق نزاع مسلح، دولي أو غير دولي . ٢/ اتفاقيات جنيف (1949) والبروتوكولان الإضافيان (1977 تعتبر الاعتداء الجنسي بكل أشكاله مخالفة جسيمة للقانون الدولي الإنساني. ٣/ المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة ورواندا (ICTY/ICTR) - قضية Kunarac et al. أكدت أن الاغتصاب يشمل كل فعل جنسي يُفرض بالقوة أو الإكراه أو استغلال حالة العجز. - قضية Akayesu رواندا) أكدت أن الاغتصاب قد يشكل فعلاً مكوِّناً للإبادة الجماعية عندما يكون القصد تدمير جماعة معينة ٤/ قرارات مجلس الأمن 1325، 1820، 1888 تُعرّف الاغتصاب كسلاح حرب، وتُلزم الدول بملاحقة مرتكبيه.
ثانياً: الاغتصاب كأداة حرب – الجسد الأنثوي بوصفه رسالة سياسية: تُظهر الدراسات (من بوسنيا إلى رواندا إلى الكونغو) أن الاغتصاب في الحروب لا يُرتكب “عرضاً”، بل يُستخدم كـ: - وسيلة إذلال جماعي. - رسالة لإرهاب مجتمع كامل. - كسر الروابط الاجتماعية. - فرض الخضوع. - تغيير التركيبة الديموغرافية. - التعبير عن سلطة مطلقة للجماعة المعتدية. إنه عنف سياسي، لا مجرد عنف جنسي.
ثالثاً: الاغتصاب في السودان – تاريخ من الإفلات، الحصانة والتهميش: لدى السودان سجل ثقيل في هذا المجال، توثقه منظمات دولية ولجان خبراء مستقلة: ١/ جنوب السودان (1983–2005 وثّقت منظمات مثل العفو الدولية و"هيومن رايتس ووتش" استخدام الاغتصاب كسلاح في الحرب الأهلية، خصوصاً في المناطق الريفية وفي معسكرات الاحتجاز ٢/ جبال النوبة (1992–2002 تقارير المقرر الخاص للأمم المتحدة أشارت إلى: - اغتصاب واسع النطاق - استرقاق جنسي - اختطاف نساء وفتيات تحت غطاء “عمليات تطهير” نفذتها قوات حكومية وميليشيات حليفة ٣/ دارفور (2003–2023 تقرير لجنة التحقيق الدولية (2005) وثّق أكثر من: حالة اغتصاب موثقة مباشرة...10,000 غالبها ارتُكب في هجمات منهجية شملت القرى الإفريقية غير العربية وقد اعتبرت عدة تقارير أن الاغتصاب كان جزءاً من استراتيجية "تدمير الجماعة" في دارفور، ووجهت التهم الي الجيش السوداني ونظام الخرطوم ٤/ ما بعد 15 أبريل 2023 الحرب بين الجيش السوداني والدعم السريع أدت إلى موجة جديدة من جرائم الاغتصاب في الخرطوم، أم درمان، بحري، الجزيرة، والجنينة والفاشر. وثقت التقارير الأممية (يونيتامس – 2023 / 2024) - اغتصاب نساء وفتيات داخل منازلهن - اغتصاب جماعي في سياق المداهمات - استهداف ممنهج للنساء بسبب انتماءاتهم الجغرافية أو الإثنية وقد شملت هذه الجرائم لأول مرة نساء وفتيات من وسط وشمال السودان، وهي مناطق كان يُعتقد أنها "محصنة" من هذا النوع من العنف، لأن جسد المرأة المهمشة هو الذي كان يُنظر إليه كـ"مباح" في الدولة القديمة.
رابعاً: صمتٌ مُمنهج - ولماذا لا تُناقش هذه الجرائم بالجدية التي تستحقها؟ إن قراءة التاريخ الاجتماعي والسياسي للسودان تكشف أن الجرائم الجنسية لم تكن يوماً موضعاً للعدالة الوطنية، بل موضوعاً للصمت أو السخرية أو الابتذال. لقد وُجِّه العنف الجنسي دائماً نحو الفئات الأضعف: نساء الهامش، نساء "القرى البعيدة"، نساء المجتمعات المستهدفة إثنياً. وحين تُغتصب أجسادهن، لا تُعامَل كجريمة ضد الإنسانية أو اعتداء على الدولة، بل كـ"تفصيل محلي"، يُطوى تحت ذريعة الحرب، العُرف، أو "أخطاء الجنود" الذين تعلموا علي ايدي دولة الظلم والعنصرية. وهذا الصمت لم يكن يوماً بريئاً؛ وإنما دليل على بنية أخلاقية مشوهة وقيم عنصرية راسخة. يكشف ذلك المثال المشين الذي ورد على لسان حسن الترابي، عراب الدولة الإسلاموية، ناقلا عن رئيس السودان حينها عمر البش حين خفّف جريمة اغتصاب امرأة على يد رجل "جعلي" قائلاً إنها ليست اغتصاباً، بل "قرباً وشرفاً". هذا التصور لا يفضح جهلاً فردياً، بل يكشف ثلاث حقائق خطيرة: ١/ نموذج دولة لا ينظر لجسد المرأة بوصفه ملكاً لصاحبته، بل امتداداً لسلطة الذكر – القبيلة – المركز. ٢/ تراتبية عنصرية تُحدد من هي المرأة التي تُعتبر إنساناً، ومن هي التي تُعامل كغنيمة. ٣/ قبول ثقافي لا واعٍ للاغتصاب كسلاح للهيمنة، لا كجريمة يجب أن تُدان.
لهذا السبب لم تُعتبر جرائم الاغتصاب في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق قضية وطنية. لم تُشكَّل لها لجان تحقيق، لم تُفتح ملفات عدلية، ولم يصدر بشأنها خطاب غاضب في المركز النيلي، لأن أجساد النساء اللواتي استُهدفن لم تكن جزءاً من مشروع السلطة المركزية ولا من رموزها السياسية. كان الصمت حينها شكلًا من أشكال التواطؤ: تواطؤ الدولة التي غضّت الطرف، وتواطؤ النخب التي تجاهلت، وتواطؤ المجتمع الذي تعامل مع الألم البعيد باعتباره ضوضاء هامشية من هوامش الحرب.
ولفهم المفارقة الأخلاقية، يكفي النظر إلى مثال من إفريقيا ذاتها: قضية الرئيس الغامبي السابق يحيى جامع، المتهم باغتصاب الطالبة فاتوه. لم تُدفن قصتها في فوضى الإعلام؛ بل دُعيت للإدلاء بشهادتها علناً أمام لجنة الحقيقة والمصالحة في بانجول، استُمع إليها، وثُبّتت روايتها، واستُعيد صوتها كإنسانة لها حق، لا كـ"خبر يوظَّف". في دولة أصغر وأكثر هشاشة من السودان، أصبح الاعتراف بالاغتصاب جزءاً من عدالة انتقالية حقيقية، لا مجرد مناورة سياسية بين معسكرين. أما في السودان، فقد وُجهت إحدى النساء السودانيات اتهاماً مباشراً بالاغتصاب لعبد الفتاح البرهان، الذي تقدمه النخب نفسها بوصفه “قائداً وطنياً”. لم ترتفع مطالبة واحدة بالتحقيق، لم تُرفع دعوى، ولم تُطالب لجنة مستقلة بالنظر في الأمر. ساد الصمت. لأن الجريمة هنا لم تكن أداة يمكن استخدامها ضد خصم سياسي، فلم تُعد جريمة في نظرهم أصلاً. هذه المفارقة يجب أن تُقال بلا مواربة: النخب التي تتاجر اليوم بآلام النساء حين تكون الجريمة في صالح خطابها، هي نفسها التي سكتت وتعامت وابتلعت لسانها عندما وُجهت الاتهامات لقادة الدولة القديمة — من عمر البشير إلى البرهان، مروراً بالآلاف من النساء اللواتي تعرضن للاغتصاب على أيدي القوات النظامية والميليشيات التابعة لها. هؤلاء لا يمثلون العدالة؛ هم تجار آلام. يدينون الجريمة عندما تمنحهم نفوذاً، ويغفرونها عندما تكشفهم، ويحوّلون أجساد النساء إلى أدوات تعبئة بدلاً من أن ينظروا إليها باعتبارها موضوعاً للحق والإنصاف. هذه هي الدولة العنصرية حين تكشف حقيقتها: - تُفرّق بين النساء بحسب القبيلة. - تُفرّق بين الضحايا بحسب الموقع الجغرافي. - تُفرّق بين الجريمة بحسب فائدتها السياسية. :إن السؤال الأخلاقي والقانوني الذي لا مهرب منه هو الآتي: لماذا تُدين النخب الاغتصاب حين يصيب “نساءها”، وتصمت حين يقع على "نساء الآخرين"؟ الجواب، في جوهره، ليس سياسياً بل أخلاقياً منحطاً: لأنهم لا يرون "الآخرين" بشراً مكتملي الإنسانية، بل يرونهم رعية، أدوات تعبئة، أرقاماً متحركة في دفاتر الحرب، ومساحة رمزية يُرسلون عبرها رسائل القوة. لقد قال الفيلسوف كانط: "عامِل الإنسان دائماً كغاية في ذاته، لا مجرد وسيلة." لكن هؤلاء جعلوا من أجساد النساء - خصوصاً النساء المهمشات - وسائل: وسيلة للضغط، وسيلة للابتزاز السياسي، وسيلة لتبييض طرف وتسويد آخر، لا موقفاً مبدئياً نابعاً من احترام الكرامة الإنسانية أو من إيمان بالعدالة. إنهم لا يصرخون اليوم لأن العدالة جريحة، بل لأن مصلحتهم السياسية اقتضت ذلك. والدليل واضح: حين كانت جرائم الاغتصاب تقع لعقود على نساء دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، لم يخرجوا بموقف او حتي ببيان واحد يطالب بالتحقيق، ولم يذرفوا دمعة واحدة على الضحايا. لم يكن صمتهم حياداً، بل تواطؤاً. ولم يكن احتجاجهم اليوم نصرةً للحق، بل استثماراً في الجريمة نفسها. وبعبارة حنّة آرنت:"أسوأ الشرور هي تلك التي تُرتكب بلا قناعة أخلاقية، بل بروح الوظيفة." وهؤلاء يؤدّون "وظيفتهم الدعائية" في هذا الوقت على أكمل وجه: يجعلون من جريمة الاغتصاب أداة - لا مأساة، وسلاحاً - لا صدمة إنسانية، ومكسباً خطابياً - لا ندبة اجتماعية تحتاج للعدالة. والأدهى من ذلك أن حديثهم عن الاغتصاب حين يطال المهمشات ليس بدافع القانون ولا الأخلاق ولا حقوق الإنسان، بل لأنه يحقق لهم صيداً سياسياً: يمنحهم مادة للهجوم على خصومهم، ويمنح الطرف الذي يؤيدونه فرصة للظهور بمظهر "حامي الشرف"، وهو في الواقع جزء من المنظومة ذاتها التي سمحت بالجرائم وغطّتها لعقود. إن العدالة، كما يقول جون رولز، تقوم على "إنصاف غير منحاز"؛ لكن ما يمارسه هؤلاء هو انحياز أعمى، ليس للضحايا، بل لخنادقهم السياسية، وجهلهم الصريح.
ولكن، تبقى الحقيقة المرة: العدالة ليست وقوفاً ضد فصيل مسلح، بل ضد منظومة أخلاقية كاملة تنكر إنسانية الضحايا. والدولة التي تصمت عن الاغتصاب حين يُرتكب باسمها، ثم تصرخ به حين يخدم بروباغندتها، ليست دولة بالمعنى الأخلاقي أو السياسي، بل عصابة تملك سلطة - تستعمل الجريمة حين تحتاجها، وتخفيها حين تفضحها. أما الضحايا، فلا يحتاجون خطباً، ولا صراخاً، ولا تجييشاً، بل يحتاجون شيئاً واحداً فقط: عدالة لا تختار ضحاياها وفق الجغرافيا أو القبيلة أو الدعاية.
نواصل في الجزء الثاني:
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة