مدخل تمهيدي؛ من الصندل الشّقِيقْ إلى الجنزير التقيل، ومن أبا قال جوزوني بنية…إلى ليمون بارا، ومن أغاني رقصات الكرنق والكمبلا إلى أغنية الدمازينا، ومن أو لالوي إسكنانا إلى أغنية يادلي، ومن دوباي الجزيرة الخضراء إلى طنبور الشمال الحنين… يشكّل تراث السودان الفني لوحة واسعة تعكس الإنسان والبيئة والذاكرة. هذا التنوع ليس مجرد أصوات متناثرة، بل سردٌ حيّ لحكايات الزمن، ومرآة لروح المكان.
ولذلك، فإن اختزال الفن في كونه لهوًا أو مجونًا، أو الحكم عليه بمعايير لغوية ضيقة كما يفعل البعض، يُعدّ واحدًا من أكبر الإخفاقات الفكرية. فالفن، بطبيعته، أوسع من القوالب الضيقة، وأعمق من الأحكام المتعجلة؛ لأنه التعبير الأكثر صدقًا عن الوجدان الجمعي للبشر.
ومن هنا يصبح التهكم على الأغاني التراثية، خصوصًا أغاني غرب السودان، ليس نقصًا في الذوق فقط، بل جهلًا بطبيعة الفن واستخفافًا بهوية الآخرين وثقافتهم وتراثهم. وهذا ما ظهر في سخريات عبد الرحمن عمسيب من هذا التراث، حين وصفه بالسذاجة لبساطة لغته، دون أن يلتفت إلى أن بساطة المفردة ليست دليلًا على فقر المعنى، بل قد تكون جوهر قوته.
"العمق يكمن في السطح"، فالاستخفاف ببساطة هذه الأغاني لا يكشف قصورًا فيها، بل قصورًا في فهم من يتهكم عليها. فبساطة اللغة ليست دليلًا على ضحالة المضمون، وإنما هي شكل من أشكال القوة الفنية التي تُخفي كثافة المعنى خلف المفردة اليومية. ولو تأمل عمسيب قليلًا لأدرك أن قوة الفكرة تُقاس بقدرتها على الظهور في أبسط صياغة. فجوهر العمق، كما يشير هايدغر، لا يسكن الأعماق البعيدة بل يتجلّى على السطح لمن يحسن النظر إليه.
فالفن لا يولد في فراغ. إنه ابن بيئته: فهل يستطيع أحدٌ أن يشعر بعمق أغنية تتحدث عن الرهيد والوزين والهجير دون أن يعرف رائحة الدعاش، أو هدير وديان كردفان، أو سر أشجار التبلدي أو فك طلاسم كثبان رمالها؟ هنا يصبح المعنى مرتبطًا بالتجربة، والشعور متكئًا على الذاكرة. ولهذا قال الراحل الأستاذ المحامي عبد الحميد سليمان حامد: “للفن بيئته التي تتفاعل معه، وقد لا نجد ذلك التفاعل الوجداني في البيئات الأخرى بذات القدر.”
وحين يغني عبد القادر سالم: “جيناكي زي وزين هجر الرهيد يوم جفا”، فهو لا يخاطب فقط أهل الرهود والبطاح في القرى والبوادي والفرقان، بل يخاطب كل من يشترك في الإحساس بالحنين، ولو كان جالسًا في مقهى مكيف أو في قلب مدينة حديثة. فالفن، في النهاية، لغة إنسانية عابرة للمكان.
من هنا يبرز السؤال التقويمي أو الحكمي: من أعطى عبد الرحمن عمسيب سلطة تحديد ما هو فن راقٍ وما هو فن ساذج؟ وهل البساطة جرمٌ فني؟ ألم تُبْنَ أعظم الفنون الإنسانية على الصدق والعفوية؟ إن النصوص التي تُحرك الوجدان ليست تلك المثقلة بالزخارف والمحسنات اللغوية، بل تلك التي وُلدت من روح المكان وأهله، حتى لو خرجت من فم حكّامة في البوادي القصية أو من راعٍ بسيط لا يملك من أدوات المعرفة إلا فطرة الإنسانية ونقاء الروح.
ومع ذلك، يصرّ عمسيب على وصف الأغاني والرقصات التراثية في غرب السودان مثل: “أبقزة” و”فرنقبية” و”إبرة ودرت”، على أنها أغانٍ ورقصات ليست جديرة بالمشاهدة والاستماع، ولا ينبغي عرضها على أسماع ومشاهد الآخرين. وهذا لا يعكس فقط ضيق أفق وفقدان تام لحاسة الذوق الفني، بل يكشف كما يبدو عن خوف غير معلن من الآخر المختلف ثقافةً ولغةً وتراثًا.
لكن، من قال إن الفن يُصنع لك وحدك؟ ولماذا يجب على شعبٍ كامل أن يخفي تراثه كي لا يزعج ذائقتك الشخصية المرهفة؟ إن هذا التفكير يعيدنا إلى عهود الإقصاء، حين كانت ثقافات الهوامش والأطراف تُحارب لأنها لا تشبه ثقافة المركز المهيمن.
ومع ذلك، فإن الفن الحقيقي ينتصر دائمًا. الأغنية التي سخروا منها بالأمس، تستحق الإعجاب اليوم، مثل “القمر بضوي” التي كتبها الأستاذ إبراهيم أبكر سعد، وسمعها جزء من العالم أو “أندريا” التي أعادت تقديمها الأيقونة نانسي عجاج. وهو ذات السحر الذي جعل كلمات الراحلة شادن “حميرا هوي البارة دري” تهزّ الوجدان رغم صعوبة فهم بعض مفرداتها على من هم خارج بيئتها.
ولستُ أنا وحدي مَن تطربه نصوص لا يفهمها كاملة؛ فأغنيتا “كيرولي” و”أسمر اللونا” لوردي تبقى من أجمل ما يُسمع، رغم أن معانيها قد تستعصي على كثيرين وأنا منهم. هكذا هو التراث: يلمس الروح قبل أن يشرح نفسه للعقل.
والفن الذي يُقصى يموت، بينما الفن الذي يُحتضن يزدهر ويتجاوز محليته. انظر إلى أغنية الطنبور “يا مريسيل” لمحمد الحسن مسعود “ود المساعيد”. كلماتها عن الفقد والحنين تتجاوز حدود المكان والزمان لتلامس كل قلبٍ يوجعه الشوق وهو حال شعبنا اليوم. إن أردنا حقًا أن نفهم بعضنا كبشر، فالفن هو الطريق لذلك. والأغنية التي لا تفهم كلماتها قد تبكيك بلحنها، تحدثك عن شعبٍ لم تلتقه لكنك أحسسته.
ويا من سخرت من أغنية تراثية تحمل من المعاني خارج ادراكك المغلق والبسيط، وقلت بالحرف الواحد انه "أسوأ يوم لك عند سماعك اغنية"، الجنزير التقيل، تُلحن وتُغنى في بيت العود بالخرطوم، أقول لك هامسا: قد لا يطربك صوت الذين يؤدونها أو كلماتها أو لحنها أو حتى موسيقاها، ولكن ما لا تراه هو أن الجنزير في ثقافة من أنشدوها، ليس مجرد معدن ثقيل، بل هو رمز للالتزام، والدفء، والشهامة، والأخوّة والكرم والتضامن عند الشدائد. فمن لم يفهم عمق كلمات هذه الأغنية، فليس ذنب الأغنية أن تشرح نفسها، بل قصور في فهمه لأشياء قد لا يعرف قيمتها الا بعد فوات أوانها.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة