منذ إستقلال السودان في عام 1956 ظل شبح الانقلابات العسكرية يطارد الدولة السودانية ويقوض فرصها في بناء نظام مدني ديمقراطي راسخ. الانقلاب الأول في 17 نوفمبر 1958 بقيادة إبراهيم عبود شكل بداية لمسار طويل من عسكرة السياسة. هذا المسار أفرغ الاستقلال من مضمونه المدني وفتح الباب أمام مغامرات الجنرالات الذين جعلوا السلطة غاية في ذاتها لا وسيلة لخدمة الشعب الخسائر السياسية كانت فادحة. كل انقلاب أطاح بتجربة ديمقراطية ناشئة وأدخل البلاد في دوامة من الحكم العسكري. غابت المؤسسات المدنية وتكرست هيمنة الجيش على القرار الوطني. النتيجة كانت غياب الاستقرار السياسي وتكرار الانقلابات حتى صار السودان نموذجا لإجهاض التحول الديمقراطي في إفريقيا الخسائر الاقتصادية لا تقل خطورة. الحكم العسكري أدى إلى سوء إدارة الموارد وتعطيل التنمية. الانقلابات جلبت العقوبات الدولية وأفقدت السودان ثقة المستثمرين. الفساد والنهب أصبحا سمة ملازمة للأنظمة العسكرية خاصة في عهد البشير الذي استمر ثلاثة عقود. الاقتصاد السوداني انهار والبنية التحتية تراجعت والشعب دفع الثمن فقرا وبطالة وتهميشا الخسائر الاجتماعية والإنسانية كانت الأشد إيلاما. الانقلابات قادت إلى حروب أهلية طويلة في الجنوب ودارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق. هذه الحروب خلفت آلاف القتلى وملايين النازحين واللاجئين. النسيج الاجتماعي تفكك والانقسامات القبلية والجهوية تعمقت. الهوية الوطنية الجامعة ضعفت أمام عسكرة السياسة وتوظيف الدين والقبيلة في الصراع على السلطة الخسائر الاستراتيجية بلغت ذروتها بانفصال جنوب السودان عام 2011 وفقدان ثلث مساحة البلاد ومعظم مواردها النفطية. الجيش نفسه ضعف وانقسم وتحول إلى أداة للسلطة بدلا من أن يكون مؤسسة وطنية. الصراع الحالي بين الجيش والدعم السريع هو امتداد مباشر لمسار الانقلابات الذي بدأ منذ عبود. كل انقلاب أعاد إنتاج الفوضى وفتح الباب لانقلاب جديد خلاصة القول إن الانقلابات العسكرية كلفت السودان فقدان الديمقراطية والاقتصاد والوحدة الوطنية والاستقرار. الحرب الدائرة اليوم ليست سوى حلقة جديدة في سلسلة الخراب التي بدأت قبل أكثر من ستة عقود. لا سبيل للخروج من هذه الحلقة إلا بتفكيك هيمنة المؤسسة العسكرية على السياسة وبناء دولة مدنية ديمقراطية تحترم إرادة الشعب وتحقق مضامين الإستقلال السياسية والإقتصادية والثقافية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة