السودان على طاولة التشريح الصفقة الكبرى تُحاك خلف شاشات الهواتف بينما يحترق الشعب في الشوارع لا تخطئها العين؛ ذلك الإيقاع المتكرر لبيانات "الرباعية" الذي يشبه ضجيجاً دبلوماسياً مبرمجاً. إنه ليس سوى غطاء صوتي لعملية جراحية كبرى. فخلف ستار الخطاب الرتيب، تُشق جثة الدولة السودانية في غرف عمليات مغلقة، ويُعاد تركيب أحشائها السياسية والأمنية استعداداً لـ "ولادة جديدة" مُوجَّهة. بينما تتدحرج الجثث في شوارع الخرطوم، تتدحرج الكلمات الرنانة في هواتف الدبلوماسيين، في تناقض صارخ يكشف الحقيقة المرة: الصفقة تُطبخ لأجل مصالح الدول، لا لأجل الشعب السوداني. المشهد السوداني فوضى الخلاف وانقسام النخب تُسهّل المهمة في خضم هذا المشهد الكارثي، تبرز مأساة أخرى: غياب القوى المدنية والسياسية السودانية المنقسمة على نفسها، والمشتتة في تحالفاتها، والغارقة في صراعاتها الشخصية والتاريخية. لقد أصبحت هذه القوى أداة طيعة في يد الأجندات الخارجية، حيث يستغل كل طرف إقليمي أو دولي انقساماتها لتمرير مخططاته. إن عجز النخب السودانية عن تقديم رؤية موحدة، وتفضيلها للمصالح الضيقة على المصلحة الوطنية، قد حولها من فاعل أساسي إلى مجرد متفرج، بل وأحياناً إلى ديكور يُزين به الخارج صفقته، بينما تُستبعد هي من الغرف التي تُتخذ فيها القرارات المصيرية. النفاق الإقليمي- مصر نموذجاً للازدواجية القاتلة وفي قلب هذه الآلية المعقدة، يبرز الدور المصري كمثال صارخ على النفاق السياسي في أعلى مستوياته. فبينما تظهر القاهرة في البيانات الرسمية كداعم "للتسوية السلمية" و"وحدة السودان"، تكشف الوقائع على الأرض عن وجه آخر أكثر قتامة. ففي الخفاء، تستمر في إرسال السلاح والطائرات بدون طيار لدعم طرف ضد آخر، مستعدة لدفع الثمن من دماء السودانيين لحماية ما تتصوره امتيازات تاريخية وأمناً قومياً مشوهاً. هذه الازدواجية المميتة لم تعد خافية على أحد، فهي تفضح حقيقة الموقف: أن دماء السودانيين أرخص من أن تمنع أي لاعب إقليمي من السعي لتحقيق مكاسبه، حتى لو كان على جثث الأبرياء. اللعبة الحقيقية - هندسة "ما بعد".. لحماية المصالح لا المدنيين اللغز ليس في ما تُعلنه الرباعية، بل في ما تتغاضى عنه. بياناتها ليست "بحثاً عن السلام"، بل هي رسائل مشفرة تُهندس لمرحلة ما بعد الصراع. التركيز الدولي منصبّ على هندسة مستقبل السودان كقطعة شطرنج في اللعبة الإقليمية الكبرى. الادعاءات الإخبارية عن "حماية المدنيين" مجرد ديكور أخلاقي يخفي الهدف الحقيقي - ضمان مرور السفن في البحر الأحمر، تأمين الاستثمارات، ومنع أي قوى منافسة من تثبيت أقدامها. الاستنتاج الصادم- سودان بلا سودانيين.. وسلطة بلا سيادة الحرب ستتوقف، والهدنة ستأتي، والاتفاق سيُعلن. لكن السؤال الذي يجب أن يُطرح بجرأة- أي سودان سيخرج من هذه الأتون؟ الجواب مخيف سودان تُهندسه مصالح خارجية متصارعة، وتُسهل تقسيمه انقسامات داخلية، وتُكرس هشاشته ازدواجية إقليمية. إنه سودان يُسلّم "مستقبلاً جاهزاً" صُمم في الغرف المغلقة لقوى لا تعترف بقدسية الدم السوداني. مهمة السودانيين الوحيدة ستكون أن يعيشوا داخل هذا القفص الذهبي، بينما تتصارع نخبهم ويتناحر جيرانهم على أشلاء وطن لم يعد لأهله رأي في مصيره. هذه هي الصفقة القذرة في أبشع صورها.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة