تَسْيِيسُ النِّيَابَةِ بَيْنَ دَعَاوَى الْمِهْنِيَّةِ وَمُتَطَلَّبَاتِ السُّلْطَةِ; في خِضَمِّ المشهد السوداني المأزوم، يَبرُزُ أداءُ النيابات في سلطة الأمر الواقع كإحدى أكثر القضايا إثارةً للتساؤلات والجدل. فمع تزايد أوامر الضبط والإحضار التي تُوجَّه ضد صحفيين أو ناشطين، تَطفُو على السطح تساؤلاتٌ حول معايير الاشتباه، وجِدِّيَّة التنفيذ، وانتقائية العدالة. وقد أعاد الأمر الصادر عن المدعي العام لنيابة جرائم دارفور، محمّد الفاتح طيفور، بالقبض على رئيس حركة العدل والمساواة جبريل إبراهيم وآخرين، إلى مسرح النقاش سؤالاً قديماً متجدداً: هل أصبحت أوامر القبض أدواتٍ سياسية تُستخدَم وفق توازنات القوة، لا وفق مقتضيات القانون؟ ورغم أن جبريل إبراهيم شخصيةٌ عامةٌ معروفةُ العنوان – وفق ما يتداوله الرأي العام – فإنّ أوامر القبض السابقة لم تُنفَّذ، وهو أمرٌ أثار انتقاداتٍ حول جدوى الإجراءات إن كانت لا تتجاوز الورق. مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: صِحَفِيَّةٌ تُطَارِدُهَا النِّيَابَة وفي المقابل، يجيء طلب وكيل النيابة الأعلى بإصدار أمر قبض على الصحفية تسابيح خاطر، ليُعمِّق الإحساس بالتناقض. فالصحفية – مهما بلغ اختلاف الناس حول مهنيتها أو انتماءاتها – تظل فاعلاً إعلامياً، وليس قوةً مسلّحة ولا مسؤولاً حكومياً نافذًا. ومع ذلك، تُوجَّه إليها إجراءاتٌ عاجلةٌ، في وقتٍ تَظلُّ فيه أوامر ضبطٍ أخرى بلا تنفيذ وهى ووكيل النيابة سواء كل يدعى العمل بمهنية تحت سلطة خارجة على القانون وإن كان جانب تسابيح افضل الا انها تبقى خريجة مؤسسات المخلوع وجنراله بلا قيد هذا التناقض بين التشدّد تجاه صحفيين، والتساهل أو العجز – أياً كان التوصيف – تجاه مسؤولين ذوي نفوذٍ سياسي أو عسكري، يُغذّي شعوراً عاماً بأن النيابة لا تعمل بمعايير واحدة. سُلْطَةُ الْأَمْرِ الْوَاقِعِ وَالتَّحَكُّمُ فِي مَسَارِ الْقَضَاءِ في الأنظمة المضطربة، تتحوّل النيابة – بطبيعة ضعف المؤسسات – إلى طرفٍ يتأثر بشدّة بميزان القوة في المشهد السياسي. فلا هي قادرةٌ على فرض قراراتها بحق من يملك عصا النفوذ، ولا هي محميةٌ بما يكفي لرفض الضغوط الموجّهة ضد من لا سند له. وعليه، تبدو النيابة – في نظر قطاعٍ واسعٍ من الجمهور – وكأنها تتحرك في ثلاث دوائر متشابكة:
دائرة القانون: حيث توجد نصوصٌ واضحةٌ تُحدِّد الجرائم والإجراءات، لكنها كثيراً ما تُترَك معلّقةً.
دائرة السياسة: حيث تتدخل إرادة السلطة الفعلية في ترجيح ملفاتٍ على أخرى.
دائرة الرأي العام: الذي يتابع كل خطوةٍ، ويقارن بين ما يُعلَن وما يُنفَّذ.
التَّحْلِيلُ: هَلْ تُسَيَّسُ النِّيَابَة؟ يمكن الجزم بأن جميع قرارات النيابة سياسية، عبر النمط المتكرر من الانتقائية والتفاوت في التنفيذ الذى يخلق انطباعاً قوياً بأن النيابات تعمل في بيئةٍ يختلط فيها القانون بالاعتبارات الأمنية والسياسية. إنَّ أوامر القبض التي تُنفَّذ على بعض الأطراف فوراً، وتظل معلّقةً ضد آخرين، تُنتج واقعاً تُصبح فيه العدالة غير متوازنة حتى وإن التزمت المواصفات الشكلية. خَلَاصَةٌ إنّ السؤال الذي يطرحه الشارع اليوم لم يعُد: «لماذا صدر أمر القبض؟» بل أصبح: «لماذا يُنفَّذ هنا، ولا يُنفَّذ هناك؟» وفي غياب سلطةٍ قضائيةٍ مستقلةٍ كاملة السلطة، ستظل النيابة – مهما حاولت – تعمل في ظلّ معادلةٍ تُسيطر عليها القوة قبل القانون، و«الأمر الواقع» قبل العدالة. لقد بات مطلوباً – أكثر من أي وقتٍ مضى – إعادة بناء مؤسسات العدالة على أساس مِهَنِيٍّ مستقلّ، يضع لكل قرارٍ معياراً واحداً، ولكلّ مواطنٍ ميزاناً واحداً، فلا تكون «العين في جبريل وميليشياته»، والمطاردة في «تسابيح».
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة