*عقلية القطيع: كيف يصنع الإعلام الرسمي وعيًا زائفًا ويقود الجماهير المغيّبة نحو الهاوية*
الصادق حمدين
مدخل تمهيدي
منذ أن أصدر عالم النفس الاجتماعي الفرنسي غوستاف لوبون في أواخر القرن التاسع عشر كتابه الشهير "سيكولوجية الجماهير"، بترجمة وتقديم الأستاذ هاشم صالح، لم تتبدّل السمات الجوهرية للطبيعة النفسية للجماعات البشرية. فقد أشار لوبون إلى أن الإنسان حين يندمج في حشدٍ غاضب أو متحمّس تحركه فكرة أو عاطفة جماعية، يفقد قدرته على التفكير المستقل ويتحوّل إلى كائنٍ مسيّرٍ بانفعالاته وغرائزه أكثر من وعيه الفردي. في تلك اللحظة، تنشأ ما يُعرف بـ "عقلية القطيع"، حيث يتراجع العقل لصالح الإحساس الجمعي، ويُستبدل المنطق بالعاطفة، ويغدو الفرد مجرد أداة ضمن منظومة انفعالية جماعية متشنجة.
في زمن الفوضى الإعلامية المعاصرة، المفعم بتضخّم المنصات الرقمية و"الاصطفاف الإسفيري"، العاطفي، لم يعد الوعي الجماهيري يُبنى على المعرفة أو التحليل العقلاني، بل على ما يُضخ في العقول من صورٍ وشعاراتٍ ومخاوف مصطنعة. وقد أسهمت تقنيات الاتصال الحديثة في تكريس هذا النمط من الإدراك، إذ أصبحت الصورة المختزلة والمعلومة الموجهة بديلاً عن التفكير النقدي والتحقق المنهجي من الوقائع. تتحول بذلك الجماهير إلى كتلةٍ منفعلة تستجيب للمنبهات العاطفية، فتفكر بعاطفتها وتتحرك بغريزتها، في مشهدٍ يعبّر عن أزمة وعيٍ جماعي وانهيارٍ في القدرة على التمييز بين الحقيقة والوهم.
أظهرت الأحداث الأخيرة في مدينة الفاشر مثالًا واضحًا على كيفية توظيف الإعلام الرسمي في صناعة الوعي الزائف، وتوجيه الإدراك الجمعي. فقد جرى تصوير الوقائع بأسلوبٍ درامي يُذكّر بمشاهد الغزو والمجازر التاريخية، في حملة تضليلٍ إعلامي استُخدمت فيها صور مفبركة وتقنيات ذكاءٍ اصطناعي لتضخيم الأكاذيب واختلاق مشاهد الرعب. غير أن زيارة ميدانية واحدة قامت بها الإعلامية تسابيح مبارك وفريقها، مثّلت نموذجًا للإعلام المهني القائم على التحقق والتوثيق، كانت كفيلة بكشف زيف الرواية الرسمية وإسقاط قناع المصداقية عن إعلام السلطة الكاذب.
هذه الواقعة تؤكد ما أشار إليه المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي في مفهومه عن "الوعي الزائف"، وهو أن تقتنع الجماهير بأفكارٍ تخدم القوى المهيمنة، بينما تظن أنها تدافع عن مصالحها الذاتية. فالإعلام الموجَّه لا يسعى إلى إيقاظ الوعي، بل إلى تسكينه، عبر خلق حالة من الانفعال الموجَّه تُغذّى بالخوف والرموز العاطفية والوطنية، حتى يُصبح الجمهور مستعدًا لتصديق أي رواية تأتي من مصدرٍ يُعدّ “مقدسًا” أو “وطنيًا” في نظره. وهكذا يتحوّل الكذب إلى عقيدة، والجهل إلى ولاء، والوعي الزائف إلى حقيقةٍ خادعة.
يتجلى هذا النمط من الوعي الزائف في ظاهرة ما يُعرف اصطلاحًا بـ "البلابسة"، أي الجماهير التي تتماهى مع خطاب السلطة القديمة (الكيزان الفلولية)، رغم كونها أول ضحاياها. فهذه الفئة تعيش حالة من الإنكار المزمن والغيبوبة الإدراكية الناجمة عن التعرض المستمر لخطاب تعبوي يقوم على التحريض والتخويف والهوية المأزومة.
ويظهر التناقض الصارخ في سلوكهم الخطابي حين ينددون بانتهاكات الحرب من جهة، ويطالبون باستمرارها من جهةٍ أخرى، في صيغةٍ من التبرير الذاتي الذي يعكس خللًا عميقًا في الوعي الجمعي. لقد ربط هؤلاء موقفهم بـ“هوية ضائعة” و“كرامة زائفة”، فحوّلوا الألم إلى بطولة، والمأساة إلى نشيدٍ يُردّد بلا وعي، في تجسيدٍ لما يسميه علم النفس الاجتماعي الاغتراب الذاتي للجماهير.
لا يقتصر دور الإعلام السلطوي على تزييف الوقائع أو صناعة الأعداء، بل يتجاوز ذلك إلى إعادة تشكيل الوجدان الجمعي وفق رؤية تخدم استمرارية السلطة. فهو يُنتج سردياتٍ مضادة لتفسير الأحداث، ويبني صورة “العدو” في المخيال الشعبي من خلال التكرار والإلحاح البصري واللغوي، حتى تترسخ في الذاكرة كحقيقة مطلقة لا تُمس.
وفي حالات الهزائم العسكرية، تُستخدم هذه الآلية لتحويل الاهتمام الجماهيري من سؤال المسؤولية إلى الانفعال الإنساني، عبر تضخيم صور الانتهاكات الحقيقية أو المفبركة لإشغال الرأي العام وصرفه عن جوهر الأزمة. بهذا المعنى، يصبح الإعلام أداةً لإدارة الإدراك الجمعي، لا لنقل الحقيقة، إذ يوظّف الدين والعاطفة والانتماء الجغرافي والعرقي لتبرير الكراهية والعنف، فيتحول القتل إلى واجبٍ ورفض الحرب إلى خيانةٍ وطنية. وهكذا يُختزل الإنسان في كونه وقودًا لآلةٍ سلطوية تتغذى على الفوضى والدماء.
إن كسر حلقة “عقلية القطيع” لا يتم إلا عبر استعادة الإنسان لوعيه الفردي وقدرته على التفكير النقدي المستقل. وكما قال الفيلسوف وعالم النفس الألماني إريك فروم: "الحرية ليست هبة تُمنح، بل وعي يُكتسب". ويبدأ هذا الوعي بإعلامٍ حرٍّ يُوقظ الأسئلة بدل أن يخدر العقول، وتعليمٍ يُعلّم الإنسان كيف يفكر لا ماذا يفكر. فعندما يتعلم الفرد الشك المنهجي ويمارس التساؤل النقدي، يبدأ تحرره الحقيقي من هيمنة الجماعة والتوجيه الأيديولوجي.
إن ما يجري اليوم ليس مجرد صراعٍ على السلطة السياسية، بل هو صراع على الوعي ذاته. فحين يغيب العقل وتعلو أصوات الجماهير دون بصيرة، تتحول الأوطان إلى مسارح للوهم والدمار. وقد لخّصت الحكمة الشعبية السودانية هذه الحقيقة ببساطةٍ عميقة حين قالت الأمهات: “القلب كان غاب، الجتة بالخراب.”
غير أن ما غاب في واقعنا ليس القلب فحسب، بل العقل. وحين يُغيب العقل، يصبح الإعلام سيدًا، والجماهير وقودًا، والحقيقة أول الضحايا. فيتحوّل الكذب إلى وطنٍ كاملٍ من الوهم. رحم الله من رحلن من أمهاتنا الغاليات، وثبّت قلوب الصابرات على هول هذه الحرب وفظائعها.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة