لم يكن ما جرى للمشاريع التنموية في السودان خلال ثلاثة عقود من حكم الإنقاذ محض صدفة أو سوء إدارة عابر. كان ذلك خرابًا مقصودًا، هندسته عقلية إخوانية أرادت أن تُفرغ الدولة من مؤسساتها المنتجة لتملأها بالولاء الحزبي، وأن تُميت روح العمل العام لتُحيي مكانها دولة "التمكين". منذ عام 1989، حين اختطف الإسلاميون السلطة، بدأ مشروعهم في تحويل موارد السودان من مشاريع إنتاج إلى أدوات سلطة. لم تُدار الخزينة بمنطق التنمية، بل بمنطق “الأمن أولًا”، حتى صار الجيش وجهاز الأمن أكبر مستهلكين لميزانية الدولة، فيما تُركت الزراعة والصناعة والتعليم تنهار بصمت. كانت تلك سياسة وليست خطأ. سياسة أرادت أن تُبقي المواطن محتاجًا، والريف فقيرًا، والمشاريع الكبرى رهائن للفساد والمحسوبية. أُقصي الكفاءات، واحتُلت المؤسسات، وسُرقت الأراضي، وتحوّل السودان من دولة واعدة بموارده إلى ساحة تجارب فاشلة لأيديولوجيا تبحث عن البقاء لا عن البناء. *مشروع الجزيرة… حين اختنق نيل السودان في قنوات الإهمال* مشروع الجزيرة لم يكن مجرد مشروع زراعي، بل كان رمزًا لكبرياء المزارع السوداني، وأحد أعمدة اقتصاد البلاد لعقود. كان يغطي ما يزيد عن 800 ألف فدان، يوظّف أكثر من مليون سوداني، ويغذي الصادرات الزراعية بنسبة تفوق النصف. لكن تحت حكم الكيزان، جرى كل شيء كما لو كان مقصودًا أن ينهار. القنوات جفّت، والسدود تُركت دون صيانة، والإدارة سُلّمت إلى كوادر حزبية بلا خبرة. وفي غضون عقدين فقط، انهار الإنتاج بنسبة تفوق 70%، وتحول المزارع من مصدر كرامة إلى قارورة احتياج. لقد قُتل المشروع حين تحوّل من مورد قومي إلى مزرعة حزبية. بيعت الأراضي لمستثمرين مقربين، وابتُز المزارعون بالجبايات، حتى أصبحت الجزيرة قلب السودان الأخضر شاهدة على جريمة اقتصادية مكتملة الأركان. *النفط: من مورد وطني إلى وقود لحروب السلطة* حين اكتُشف النفط في السودان، ظن الناس أن المستقبل قد بدأ. لكن النفط في يد الكيزان لم يكن نعمة، بل لعنة جديدة. العائدات لم تُستثمر في الإنسان أو البنية، بل في أجهزة القمع والميليشيات. هكذا نُسجت رواية "الاقتصاد الحربي" التي أطبقت على الموارد، ولاحقًا، حين انفصل الجنوب عام 2011، اكتشف الشعب أن ثروات النفط لم تُبنى بها دولة، بل أُفرغت في جيوب منظومة السلطة. *دارفور والشرق… التنمية كانت ضحية الأمن* دارفور لم تُعامل كمكان يحتاج للبناء بل كميدان أمن بالوكالة. إضرام الحرب وإتاحة الفوضى أديا إلى حرق قرى، تدمير بنى تحتية، ونزوح ملايين. وفي الشرق، الحيوية الاقتصادية تلاشت بفعل الإقصاء والتجاهل. هذه السياسات لم تكن أخطاء تقنية؛ كانت خيارًا استراتيجيًا لبقائهم في السلطة. *الفساد والخصخصة: اقتصاد الولاء* تمت خصخصة مؤسسات حيوية بأثمان رمزية، وتحوّلت الشركات الوطنية إلى أملاك لأذرع النظام. هربت رؤوس الأموال، وهجرت الخبرات، وتحولت الدولة إلى سوق لمن يملك المحسوبية. النتائج كانت فقرًا متزايدًا، وبطالة، وانهيار مؤسساتي جعل أي نهضة مستقبلية أصعب وأغلى. *العزلة الدولية… ثمن الأيديولوجيا* الخيارات الأيديولوجية التي تبنّاها النظام «كلفت» السودان عزلته المالية والدبلوماسية. العقوبات والجمود في قنوات التمويل الدولي تركا فراغًا استفاد منه الفساد وتضاعفت تبعاته على المواطن. *من الخراب إلى الحرب… الحلقة الأخيرة* بعد سقوط البشير، لم تنتهِ مأساة السياسات المنهكة. تحوّلت بقايا منظومة السلطة إلى فاعلين في دوامة الحرب الأهلية الأحدث، لتكتمل دائرة التدمير: مشاريع متوقفة، اقتصاد منحط، وبشر بلا حماية. النتيجة اليوم هي ركود اقتصادي حاد، فقدان وظائف بالملايين، وتدهور مؤسسات الدولة. *الطريق إلى التعافي يبدأ بإيقاف الحرب وإبعاد الفاسدين* لا يمكن إصلاح اقتصاد محطم بينما البنادق ترعد في الشوارع. لا يمكن إعادة بناء مشاريع أُهملت عمداً دون محاسبة من حوّل الدولة إلى محفز للفساد والاقتسام الحزبي. التعافي يبدأ بسلام شامل، بمحاسبة منظمي النهب، بإعادة الكفاءات إلى مواقعها، وبخطة وطنية لإعادة تشغيل المشاريع المتوقفة. وفي الختام وبعد كل ما ذكر لا بد من قرار حاسم وواضح: إبعاد هذه الفئة الكيزانية نهائيًا. كفى تدميرًا لاقتصاد السودان، وكفى إشعالًا للحروب التي شردت الملايين. إن استعادة الوطن تتطلب طي صفحة الإفقار الممنهج، وفصل الذين أهلكوا الأمة عن دفة القرار، ليبدأ السودان من جديد في بناء مستقبله بحكمة وعدالة. Image
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة