في مشهد يثير القلق والشفقة في ذات الوقت، شهد حشد من الجنود بسلاح المدرعات خطابًا تحريضيًا ألقاه مني أركو مناوي والفريق ياسر العطا، في ما يبدو إنه تحالف السلطة والمال في ثوب جديد بين الإسلاميين، وحركة تحرير السودان.
أركو مناوي أعلن صراحة أنه لا يريد سلامًا بل حربًا شاملة تنتهي في أقصى حدود دارفور مع الدول المجاورة، وأطلق كلمات صادمة تجاوزت كل حدود الحشمة، واللياقة والأدب، والذوق السليم، قبل أن يتسلم الفريق العطا المنصة ويكرر ذات العبارات السوقية المبتذلة، ويزيد عليها في رفض ضمني للهدنة الإنسانية، إن جملة "بل بس"، تعادل في حروفها كلمة الرباعية الساعية للهدنة ووقف الحرب، مؤكّدًا موقعه القيادي والريادي في التحريض وقبوله فرحا مسرورا بلقب "كبير البلابسة"، واستعداده لتأجيج الصراع إلى ما لا نهاية.
هذه الخطابات ليست مجرد تصريحات، بل دعوات صريحة للمواجهة المسلحة، تحمل تهديدًا مباشرًا للأمن والاستقرار في السودان وتكشف عن استراتيجية واضحة لإشعال العنف.
منذ اندلاع الحرب في السودان، أصبح المشهد أكثر وضوحًا لكل من يتابع تطورات الصراع وتعقيداته. فالحرب التي دخلت عامها الثالث لم تعد حربًا بين جيشين أو قوتين متنازعتين على النفوذ، بقدر ما هي حرب صراع بين مشروعين متناقضين: مشروع يسعى إلى تأسيس دولة مدنية ديمقراطية، ومشروع قديم يحاول البقاء على أنقاض الدولة نفسها.
في بدايات الحرب، قال وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن إن “أياً من الأطراف لن يتمكن من حسم الصراع عسكريًا”. هذا التصريح لم يكن مجرد توصيف دبلوماسي، بل قراءة دقيقة لطبيعة الأزمة السودانية التي أُريد لها أن تظل في حالة “توازن ضعف” تمنع النصر الحاسم لأي من أطرافها.
ومع مرور الوقت، بات واضحًا أن هناك أطرافًا داخلية تراهن على استمرار هذه الحالة، وعلى رأسها قوى النظام السابق الكيزان الموتورون الذين اشعلوا فتيل هذه الحرب إبتداءاً، فوجدوا في الحرب فرصة لإعادة إنتاج انفسهم، والعودة للمشهد السياسي في ثوب ملطخ بدماء الأبرياء.
فالكيزان، الذين فقدوا السلطة بعد ثورة ديسمبر المجيدة، يدركون أن أي سلام حقيقي يعني نهاية دورهم السياسي والتنظيمي إلى الأبد. ولذلك، فهم يرفضون أي تسوية سياسية تُفضي إلى استقرار، لأن السلام بالنسبة لهم لا يعني سوى فتح ملفات المحاسبة والمساءلة وكشف ما ارتكبوه من جرائم بحق الشعب السوداني طوال ثلاثة عقود من الحكم العضوض.
استمرار الحرب بالنسبة لهم ليس مأساة وطنية، بل خيار استراتيجي لإبقاء البلاد في حالة اللاسلم واللاحرب، وهي البيئة التي يجيدون العيش فيها والتسلل من خلالها إلى المشهد من جديد.
تُظهر مواقفهم من كل المبادرات السياسية سواء تلك التي طُرحت داخليًا أو عبر الوسطاء الإقليميين والدوليين حجم تعنتهم وإصرارهم على ربط مصير السودان بمصير مشروعهم الأيديولوجي المنهار. إنهم يرفعون شعارات السيادة والوطنية حيناً، وشعارات الدين حيناً آخر، لكن جوهر مواقفهم لا يتعدى الدفاع عن مصالحهم الخاصة وخوفهم من المحاسبة والعقاب.
إن أخطر ما يواجه السودان اليوم ليس فقط استمرار الحرب، بل محاولة تزييف وعي الناس عبر إعادة تدوير الخطاب الإسلاموي الذي يحمّل الآخرين مسؤولية الخراب، في حين أن جذور الأزمة تمتد إلى سياسات النظام السابق التي فككت مؤسسات الدولة، وزرعت بذور الانقسام، وعمّقت الانهيار الاقتصادي والاجتماعي.
السلام في السودان لن يتحقق ما لم يُواجه هذا المشروع الضلالي بكل وضوح وقوة وعنف. فالتسوية التي تتجاهل دور الكيزان في إشعال الحرب وتمويلها وتأجيج خطاب الكراهية، هي تسوية هشة محكوم عليها بالفشل. أما الحل الحقيقي، فيكمن في بناء دولة جديدة على أسس العدالة والمواطنة، دولة تُقصي من يصرّون على إبقاء البلاد رهينة للسلاح والدمار.
لقد آن الأوان لأن يدرك الجميع أن استمرار الحرب ليس قدراً، بل قرارٌ تتخذه قوى محددة تخشى السلام لأنه يعني سقوطها النهائي. وعلى قوى الثورة الحية والمنظمات المدنية والمجتمع السوداني الواعي أن ترفع صوتها مجددًا، لا للحرب، لا لتجار الدين وسماسرته، لا للعودة إلى مربع الاستبداد.
ففي نهاية المطاف، لن ينتصر من يراهن على الدمار والخراب، وسيكتب التاريخ أن السلام كان بداية النهاية لمشروع الكيزان الظلامي والبلابسة وتوابعهم وحلفائهم المحليين والإقليميين في السودان.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة