يمر السودان بلحظة تاريخية بالغة التعقيد، تتداخل فيها السياسي بالاجتماعي، ويختلط الألم بالأمل، فيما يتشكل وعي جديد تحت وطأة الحرب والانهيار الاقتصادي وتفكك الروابط الاجتماعية. في قلب هذه العاصفة يبرز سؤال مصيري يحتاج إلى مواجهة شجاعة وصادقة: لماذا فشل الخطاب السياسي الجذري، الحامل لرؤى التغيير، في التحول إلى خطاب شعبي، يجد صداه في وجدان الناس وخاصة جيل الشباب الذي يشكل عماد الحاضر والمستقبل؟ على الرغم من الإرث الثوري العظيم الذي تختزنه الذاكرة السودانية من ثورات أكتوبر وأبريل، إلا أن الفجوة تبدو اليوم هائلة بين النخب السياسية والثقافية من جهة، وبين الشارع من جهة أخرى. إن التشخيص لهذه الهوة ليس ترفاً فكرياً بل هو محاولة حيوية لبناء جسر بين الفكر والعمل، وبين الحلم الثوري والواقع المعيش للناس.
الفجوة اللغوية- عندما تنفصل المفاهيم عن الحياة أولى مفاصل هذه الأزمة تكمن في اللغة. فأي خطاب سياسي لا ينجح إلا إذا تكلم لغة من يفترض أن يخاطبهم. واللغة هنا ليست مجرد كلمات، بل هي الشعور والهموم والتعبير عن الواقع اليومي. ما زال الخطاب الجذري، في كثير من الأحيان، حبيساً لبرج عاجي من المفاهيم النظرية المجردة، كالصراع الطبقي والبنية الكولونيالية وعلاقات الإنتاج. بينما لا شك في صحة وأهمية هذه التحليلات، إلا أنها تطفو بعيداً عن حياة المواطن البسيط الذي يستيقظ صباحاً وهو يفكر في سعر الخبز، وتوفر الدواء، ووسيلة المواصلات، وشعور الأمان، ومستقبل أطفاله. حينما يتحدث الخطاب السياسي عن شيء منفصل عن هذه الهموم، يحدث انفصال. وحينما يشعر الإنسان أن هذا الخطاب لا يشبهه، ولا يلامس جراحه، ولا ينطق بلسانه، فإنه يرفضه وينسحب، حتى لو كان هذا الخطاب يحمل في طياته مصلحته الحقيقية. الإشكال ليس في عجز الناس عن فهم المفاهيم الثورية، بل في عجز النخبة عن ترجمة هذه المفاهيم إلى لغة الحياة. الفكر لا يفقد قيمته حين يُبسَّط، بل يفقدها حين ينفصل عن الواقع. معركة الرواية: الإعلام وسيادة الصورة نعيش في عصر تنتصر فيه الصورة على النص، وتتفوق اللقطة السريعة على الخطبة الطويلة. إنها زمنية انتشرت فيها فكرة مصورة في ثلاثين ثانية قد تفوق في تأثيرها كتاباً كاملاً. لقد أدركت قوى الكراهية والتطييف العرقي هذه الحقيقة مبكراً، فسيطرت على الفضاء الرقمي وروضته لخدمة أجندتها. وفي المقابل، بقي الخطاب الجذري يراوح مكانه، معتمداً بشكل شبه حصري على أدوات تقليدية مثل البيانات الطويلة والمقالات التحليلية، والتسجيلات الخطابية المطولة. هذه الأدوات مهمة، لكنها لم تعد كافية وحدها لخوض المعركة. فالشباب اليوم لا يبحثون عن خطاب جاهز ومعلب، بل يبحثون عن القصة. يبحثون عن إنسان يشبههم، وعن تجربة حية، وعن نموذج واقعي يمكن الاقتداء به، وليس عن نظرية مجردة. المعركة الحقيقية اليوم هي معركة رواية فمن يملك السردية المؤثرة يملك الوعي، ومن يملك الوعي يملك القدرة على الفعل والتغيير. شرعية الشعور: السياسة التي تمنح الكرامة لم تعد الشرعية السياسية تُكتسب بالخطب الرنانة أو النظريات المتقنة وحدها. الناس لا تنحاز للفكرة لمجرد أنها صحيحة من الناحية المنطقية، بل تنحاز لها حين تشعر بأنها تمنحها كرامة، وتعيد لها الأمان، وتوفر معنىً لحياتها. السياسة التي لا تمنح الإنسان إحساساً بكرامته تصبح جدلاً فارغاً. والخطاب الذي لا يحرك في النفس شعوراً يصبح خطاباً ميتاً، بغض النظر عن حدة تحليله. إن الشرعية اليوم تُبنى من خلال الوجود الحقيقي مع الناس: في الإفطار الجماعي في الشارع، وفي دعم النازحين، وفي المستشفى الميداني، وفي المشاركة في حل أزمة ماء، وفي الوقوف إلى جوار الضعيف. حين يرى المواطن السياسة متجسدة في حياته اليومية، يقتنع أنها تخصه. وحين لا يرى ذلك، فإنه سينصرف عنها، حتى لو كانت تحمل أجمل النظريات وأكملها. نحو حلول: ملامح خطاب جذري شعبي لبناء خطاب جذري قادر على اختراق الوعي الجمعي للسودانيين والتأثير فيه، لا بد من الانتقال من التنظير إلى التطبيق عبر خطوات عملية: الترجمة الحية للمفاهيم: تحويل المفاهيم النظرية إلى لغة الحياة اليومية، دون التضحية بالجوهر الفكري، بل بنقله إلى لسان الناس وهمومهم. الثورة البصرية: إنتاج خطاب بصري سريع الانتشار وعميق التأثير، يعتمد على المقاطع القصيرة، والقصة الشخصية المؤثرة، وحكايات النزوح والتصدي، والصور التي تلامس القلب قبل العقل. السياسة الخدمية: إعادة الاعتبار لقيمة العمل المجتمعي الميداني، والإقرار بأن السياسة الحقيقية ليست فقط في البيانات والمواقف، بل في خدمة الناس وحل مشاكلهم. خطاب الكرامة والتمكين: صناعة خطاب يستعيد للشعب إحساسه بالكرامة والقدرة، لا خطاب المواساة الذي يتعاطى معه كضحية. فالشعب يريد أن يسمع صوته وهو يعلن قدرته على صنع المستقبل، لا أن يستمع إلى من يندب حظه. الثورة تبدأ باللغة الخلاصة هي أن الأزمة ليست أزمة وعي شعبي متخلف، وليست أزمة غياب للأفكار التغييرية. إنما الأزمة الحقيقية هي أزمة الجسر الواصل بين الفكر الثوري وبين الشعب. حين يتكلم خطاب التغيير بلغة الناس، وحين يدخل إلى تفاصيل حياتهم اليومية، وحين يتحول إلى جزء من وجدانهم ووجداتهم، لا إلى مجرد مصطلحات في قواميسهم، عندها فقط يمكن أن يولد مشروع وطني جديد قادر على قيادة السودان من دائرة الألم إلى فسحة الأمل. فالثورة، في نهاية المطاف، تبدأ باللغة. ومن يملك لغة الناس، يملك مستقبلهم.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة