كل مرة نحدّق في ملامح الوطن، نشعر كأننا نقف أمام جسدٍ منهكٍ يبحث عن نفسٍ ضائع، وروحٍ تلوّح لنا من بعيد، لا لتعاتبنا، بل لتذكّرنا بما أسقطناه عمداً من ذاكرتنا، وطن مُثْقَل لا يملك التقاط أنفاسه، وكأن الزمن ذلك الكائن الخفي الذي نُسيء فهمه دائماً، تعمّد أن يبطئ خُطاه عند حدودنا، لا رأفةً بنا، ولا احتراماً لظروفنا، بل لأننا فقدنا القدرة على التعامل معه. فالوقت الذي لا نحسن تقديره، يتخلى عنا، واللحظات التي لا نُحسن التقاطها، تتحول إلى جراح كامنة، تنفتح كلما حاولنا أن نخطو خطوة نحو الأمام.
ذلك الوعي الراسخ في جوهر هذه الديار، المولود من طمي النهر وخصوبة المروج التي تفيض في الروح سرّ الامتداد، يقف بين قوّتين لا ترحمان، أرضٌ أوسع من ذاكرته، وتاريخٌ أثقل من يومه. ومن شدة هذا الحمل، ينساق إلى عادةٍ جماعية خطرة: أن يمضي بلا توقف، بلا تأمل، كأن الإرهاق لا يطال الأرواح قبل الأجساد، وكأن الوطن المنهك لن يضع أبناءه يوماً أمام لحظة حساب لا يفيد معها الندم. وقد أثبتت تجارب السنين أن من يخشون الغياب خوفاً من أن يفوتهم شيء، هم أنفسهم من تفوتهم الحياة، تمضي أمامهم خفيفة، كأنهم لم يلحقوا يوماً بإيقاعها الحقيقي.
وهذا العطب ليس سياسياً وحده، ولا هو اقتصادٌ مختل أو نخبة عاجزة فقط، بل هو خلل في علاقتنا بذواتنا وبالزمن وبالممكن. نحن أمةٌ وُضعت بين يديها مساحاتٌ تكفي لأن تجعلها جنةً على الأرض، ولكنها فضّلت أن تقف على أطراف التاريخ، تراقب انحداراتها بثباتٍ غريب، كأننا نحتاج دائماً إلى كارثةٍ جديدة كي نستيقظ، وإلى ندبةٍ أخرى كي نراجع أنفسنا. فمن يعيش فقط ليصدم الآخرين، أو ليُدهشهم، أو ليبرهن على قوته في مرآة الخارج، ينتهي دائماً إلى خواءٍ داخلي، ويصبح الوطن كله مجرد مساحة لجرحٍ مفتوح.
ما يميز الأزمة السودانية أنها ليست نتاج حدثٍ واحد، بل تراكم قرون من اختلال التوازن بين المركز والهامش، بين الدولة والمجتمع، بين السلطة والوعي، بين ما نعلنه وما نخفيه. نحن شعبٌ أتقن فنّ النجاة الفردية، لكنه لم يتعلم بعد كيف يصوغ خلاصه الجماعي. كل شيء في حياتنا مؤجّل: العدالة مؤجلة، إعادة البناء مؤجلة، المصالحة مؤجلة، وحتّى الحلم مؤجّل. وكأن البلاد تعيش في حالة «انتظارٍ أبدي» لا تعرف فيه إلى أي جهة تتجه، ولا لماذا تتجه. وفي انتظارنا الطويل، تتكاثر أمراض السياسة والمجتمع. نلوذ بالقبيلة حين تغيب الدولة عن حمايتنا، ونستدعي القوة حين يتوارى القانون، ونستحضر صدى الماضي حين يعجز المستقبل عن الحضور.
لكن الأزمة، مهما بدت عميقة، ليست قدراً. فالخروج من المتاهة يبدأ حين نفهم أن الدولة لا تُبنى بالعاطفة، ولا بالإدانة الأخلاقية وحدها، بل بإعادة تصميم العقل الذي يفكر، والبنية التي تنظم، والخيال الذي يحلم. السودان بحاجةٍ إلى مشروع ذهني يسبق مشروع القوة، وإلى هندسة اجتماعية تبني الثقة قبل أن تبني الأبراج، وإلى ثورةٍ هادئة في طريقة تفكيرنا قبل أن نبحث عن ثورة في شوارعنا.
الحل يبدأ بتغيير علاقتنا بالزمن، وبالاعتراف أن السرعة العمياء تشبه السكون القاتل؛ كلاهما يؤدي إلى الهاوية. نحتاج إلى وقف هذه الاندفاعات التي تأخذ شكل الحماس اللحظي، وإلى استبدالها بمنظور طويل المدى يفكر في البلاد كمساحة تستحق أن تُدار لا أن تُستهلك. ولعل ما يحتاجه السودان ليس خطة خمسية جديدة، بل إعادة تعريف «الإنسان السوداني» نفسه: ما الذي يريده؟ وما الذي يخافه؟ وما الذي يقيده؟ وكيف يمكن تحويل شعوره المتجذر بالكرم والشهامة إلى منظومة عمل لا إلى مجرد فضيلة فردية؟
وهنا لا بد من حلول خارج الصندوق، لا تُعيد إنتاج النخب الفاشلة ولا تستنسخ الدولة الرخوة. نحتاج إلى «عقل عام» جديد يُبنى عبر مدارس تعيد صياغة مفهوم المواطنة من جذوره، وليس عبر مناهج تُترجم الصراع إلى ثقافة. نحتاج إلى نظام اقتصادي يبدأ من القرى لا من الخرطوم، حتى تفهم المدن أنها ليست قلب الوطن الوحيد. نحتاج إلى قضاءٍ مستقل لا يُدار بالولاءات، وإلى جيشٍ محترف لا يتقاسم السلطة مع أحد. ونحتاج قبل كل ذلك إلى مصالحةٍ مع ذواتنا، لا تُفرض عبر صفقات سياسية، بل عبر كشف الحقيقة كاملة، حتى نستعيد القدرة على الحزن النظيف الذي يسبق الشفاء.
ولعل أهم ما نحتاجه هو أن نعيد للسودان حقه في أن يتنفس. أن نسمح له بأن يتوقف، بأن يعيد ترتيب فوضاه، بأن يبحث عن معنى جديد يتسع لأبنائه. فالوطن، مثل الجسد، حين ينهكه أبناؤه ولا يمنحونه وقتاً ليستريح، سيجد طريقه ليفرض التوقف من تلقاء نفسه. وحين يحدث ذلك، لن يكون التوقف اختياراً، بل قدراً.
إن أخطر ما يمكن أن يحدث لأمة هو أن تستمر حياتها في التحرّك دون أبنائها؛ أن تصبح البلاد مسرحاً بلا جمهور، وحكاية بلا رواة. وما لم نُمسك بزمام الزمن الآن، ونصنع مصيرنا بعقول جديدة وجرأة جديدة، فسنظل ندور في الحلقة نفسها التي تدور فيها الأمم التي تعرف الحقيقة لكنها تفضّل الصمت. في النهاية، نحن لا نفتقد القدرة على التغيير، بل نفتقد الجرأة على مواجهة أنفسنا. وحين نمتلك تلك الجرأة، لن يعود الزمن متلكئاً عند حدودنا، ولن يعود الوطن متعباً كما كان؛ سيبدأ في السير معنا لا ضدنا، لأننا ــ لأول مرة سنعرف إلى أين نمضي. [email protected]
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة