الهدنة في حال كونها مأزقا ومعضلة سياسية (أو في غموض بيان السلطة غير الشرعية)
من المعلوم ان ميثاق الأمم المتحدة لم يعرف الهدنة الإنسانية بوضوح، وأن فقهاء القانون الدولي عرفوها بأنها " وقف العمليات الحربية بين طرفي القتال بناء على اتفاق المتحاربين"، وهي محكومة بمجموعة من النصوص القانونية، خاصة الفصل الخامس من لائحة قوانين وأعراف الحرب البرية، المعتمدة في المؤتمر الدولي للسلام بلاهاي في 1907م. والهدنة تختلف عن وقف إطلاق النار بأنها تستلزم اتفاق المتحاربين في حين ان الوقف من الممكن ان يكون من طرف واحد، وهي عادة أقصر من الوقف ، وليس لها أهداف استراتيجية بعيدة من قبيل اعادة تجميع القوات، وهدفها إنساني بالدرجة الأولى ، كإدخال المساعدات والإغاثة. ويلاحظ ان الرباعية في خارطة طريقها قد بدأت بالهدنة لتضمن اتفاق الطرفين وتمهد لما بعدها، ولم تبدأ بوقف إطلاق نار وان كانت الهدنة تطلق عليه احياناً برغم الاختلافات المذكورة أعلاه. فبالاصرار على الهدنة ، تؤكد الرباعية على الطابع الإنساني لا السياسي من ناحية، وتلزم الطرفين بالاتفاق من ناحية أخرى، وتمهد الطريق لخطوات قادمة. والواضح ان المليشيا الارهابية قد وافقت على الهدنة في بيانها الصادر يوم امس، بالرغم من تقدمها العسكري بعد سيطرتها على الفاشر وبارا، وخطابها المهدد للأبيض وبابنوسة والشمالية ووسط البلاد. وأسباب موافقتها كثيرة، يأتي في مقدمتها محاولة تثبيت انتصاراتها العسكرية وإراحة قواتها، ومسح آثار الهزيمة السياسية المترتبة على الاستيلاء على الفاشر، والتي نشأت عن الفظاعات والأعمال الهمجية المروعة التي ارتكبتها قواتها، وجيشت العالم كله ضدها، وأجبرتها على تكوين لجنة تحقيق غير مستقلة واعتقال احد مجرميها العتاة، وترك من يعطي التعليمات ويقرر استباحة المدن. كذلك الموافقة تأتي في سياق الخضوع لارادة المجتمع الدولي، والخوف من عصا الولايات المتحدة الغليظة، القادرة على قصقصة اجنحة الدول الداعمة للمليشيا وايقافها عند حدها إذا أرادت، ونزولا عند رغبة تلك الدول التي تكفل تلك المليشيا الارهابية وتمدها بالأسلحة والعتاد. وموافقة المليشيا الارهابية كانت متوقعة، بإعتبار أن موقفها التفاوضي قد تحسن كثيراً بعد انتصاراتها الأخيرة، ولحاجتها لدخول الإغاثة في مناطق سيطرتها بحكم فشلها في إدارة تلك المناطق مدنياً ومواجهة احتياجات السكان الملحة. أما معسكر سلطة الأمر الواقع غير الشرعية التي يقودها الجيش المختطف وجنرالاته كواجهة للحركة الإسلامية المجرمة، فلم تصدر عنه موافقة صريحة ومباشرة على الهدنة حتى الآن ! فبالرغم من تصريح مستشار الرئيس الأمريكي عن قبول الجيش المختطف بالهدنة من حيث المبدأ، إلا ان بيان مجلس الأمن والدفاع الذي انعقد بالخرطوم بدلا عن بورتسودان، جاء متناقضاً وغامضا، يوازن بين قبول الهدنة مبدئياً، وإرضاء الحركة الإسلامية المجرمة التي أشعلت الحرب للحفاظ على مكتسبات التمكين وترغب في استمرارها للسيطرة على السلطة بشكل كلي وتام. والغموض والتناقض مقصود، ليسمح بالمناورة اكثر من انه يحمل خلافا حديا أو محاولة جادة من الجنرالات للتخلص من الحركة الإسلامية المجرمة كما يتوهم البعض. فاختلاف التقديرات ليس خلافا في التوجه، لان المعسكر برمته متفق على استمرار الحرب، باعتبار ان السلم يهزم الغرض الذي اشعل من اجله الحرب، في ظل رفض المجتمع الدولي البات والحاسم لتواجد الإسلاميين المجرمين في السلطة. ومأزق هذا المعسكر ناشئ من محاولته ارضاء المجتمع الدولي وخصوصا الولايات المتحدة الأميركية وعدم الدخول معها في مواجهة، مع الاستمرار في تسعير الحرب بوصفها الوسيلة الوحيدة لبقائه في السلطة. وهو من ناحية بحاجة للهدنة لإيقاف تمدد المليشيا الارهابية المتفوقة عسكرياً، وللقيام بالتعبئة العامة لزج مزيد من الأبرياء في الحرب وجلب وقود بشري جديد لها عبر تخويف المواطنين العزل من بشاعات المليشيا الارهابية، وفي نفس الوقت بحاجة للتحرك العسكري السريع لتحسين موقفه التفاوضي عبر تحقيق بعض الانتصارات لأن الخطوة القادمة بعد الهدنة ذات طابع استراتيجي اساسه التفاوض على وقف شامل لإطلاق النار، سوف يترتب عليه فض الاشتباك والاعتراف لكل معسكر بالسيطرة على الأماكن التي استولى عليها، وهذا يضعف كثيرا من مركز الحركة الإسلامية المجرمة التفاوضي. فالجنرالات الواجهة وعلى رأسهم الانقلابي المزمن الذي يتم تسويقه على أنه بصدد ان يغدر بالإسلاميين، ليس لديهم القدرة على مواجهة وهزيمة الإسلاميين ، وليس في ذلك تضخيما للإسلاميين المجرمين ولا تبخيسا من قدرات هؤلاء الجنرالات التجار الذين يسيطرون على اقتصاد البلاد. ولكن ادراكا لواقع ان الإسلاميين يسيطرون سيطرة تامة على جهاز الأمن، وعلى الأجهزة الضاربة في الجيش المختطف، وعلى المليشيات الخاصة بهم وبعض المليشيات الحليفة، وأي صدام معهم يعني انهيارا كاملا في معسكر البلابسة. لذلك أي محاولة لإقصاءهم ، تستلزم ان يكون هذا الإقصاء جزئيا بإستثمار الخلاف بين التيارين المتشدد والبراغماتي وسطهم ، وخلق انقسام واضح يمكن الجنرالات التابعين لهم من استقطاب الجزء المؤثر والمسيطر امنيا وعسكريا إلى جانبهم. والصراع بين التيارين، هو الذي يظهر في شكل هجوم ضاري على الانقلابي المزمن وتهديد واسع له في حال قبول الهدنة. حتى هذه اللحظة الصراع مستمر وخطاب الممانعة والرغبة في الاستمرار في الحرب لتحقيق نصر شامل مستحيل هو السائد. لكن الجنرالات المختطفين للجيش والبراغماتيين في الحركة الإسلامية المجرمة، يعلمون يقينا الا حسم عسكري ، كما يعلمون بأنهم في حاجة ماسة للهدنة لأنهم غير مستعدين عسكريا للهجوم وتحقيق انتصارات جزئية، وبالتالي سيدفعون في اتجاه تطوير القبول من حيث المبدأ إلى قبول كلي، برعاية وتشجيع الدول الداعمة لحربهم، التي لا ترغب في مواجهة مع الولايات المتحدة الأميركية حتماً. وبالطبع رجحان القبول الذي يعكس وجهة عقلانية وواقعية، لا يعني وقوعه، فتيار الهوس والتشدد داخل الحركة الإسلامية المجرمة مازال موجودا ومؤثرا وفاعلا، لأنه هو من يمد الحرب ويقودها ويقاتل في الميدان، وله امتدادات وسط القيادات الصقور محدودي الأفق، الذين يتوهمون القدرة على سحق المليشيا باللعب على المحاور والرهان على تقديم التنازلات للخارج على حساب سيادة البلاد وحقوق المواطن. فالهدنة الآن أصبحت مأزقا لمعسكر سلطة الأمر الواقع غير الشرعية ، ومعضلة سياسية تعيد صياغة المعادلة الداخلية للمعسكر، وتضعه أمام امتحان صعب يبدو واضحا في بيان مجلس الأمن والدفاع المزعوم الغامض والمتناقض، وفي تناقض ما يلتزم به الجنرال الانقلابي المزمن في الغرف المغلقة، وما يقوله في إطار التعبئة وإرضاء مقاتليه وصقور الحركة الإسلامية. المهم هو أخذ هذه التناقضات في الاعتبار دون التعويل عليها، وفهمها في سياق توازن الضعف والضغوط الخارجية الفاعلة، مع الثبات على قبول الهدنة وكل ما يتعلق بالمسار الإنساني وحماية المدنيين في مشروع الرباعية، وحصار خطاب الحرب والتعبئة العامة، مع رفض أي مشروع سياسي يسمح للطرفين بالإفلات من المحاسبة والعقاب، ويسمح بوجودهما في المعادلة السياسية المستقبلية. وقوموا إلى ثورتكم يرحمكم الله!! 7/11/2025
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة