|
|
"تشريح إشكالية بناء الدولة في مناطق النفوذ المسلح: الحالة السودانية كنموذج"
|
08:12 PM November, 03 2025 سودانيز اون لاين زهير ابو الزهراء-السودان مكتبتى رابط مختصر
أين الواقع والطوبى تشريح إشكالية "تأسيس الدولة" في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع تمهيد: بين حلم الدولة وضباب السلاح
في خضم الضبابية الدامسة التي تخيم على المشهد السوداني منذ اندلاع الصراع المسلح في أبريل 2023، تبرز محاولات "التأسيس" لكيان سياسي جديد في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع (RSF) كظاهرة معقدة، تستحق قراءة نقدية متأنية وعميقة. هذه المحاولات، التي تتجلى في إعلانات عن إدارات مدنية مؤقتة وهياكل إدارية محلية، تحمل تناقضات جوهرية تطرح أسئلة مصيرية حول إمكانية تحويل السلاح إلى دولة، والعسكرة إلى مؤسسات مستدامة. إنها ليست مجرد إجراءات إدارية، بل محاولة لإعادة صياغة مفهوم الدولة في سياق حرب أهلية مدمرة، حيث يتحول الواقع إلى طوبى، والقوة إلى شرعية مزعومة.
أولاً: التأسيس على أنقاض الدولة – المفارقة البنيوية
المفارقة الأساسية تكمن في محاولة بناء كيان سياسي عبر تفكيك الكيان القائم أصلاً. فالدولة، بالمفهوم الكلاسيكي الذي صاغه ماكس فيبر، تقوم على ثلاثة أركان: الشرعية، المؤسسات، والاحتكار الشرعي للعنف. غير أن التأسيس الجاري في مناطق سيطرة الدعم السريع يعتمد على القوة العسكرية المحضة، مما يجعل الشرعية السياسية رهينة لميزان القوة، لا لموافقة المجتمع.
تشير تقارير ميدانية من ولايات دارفور، مثل نيالا والجنينة، إلى أن بعض “الإدارات المدنية” المعلنة ليست سوى واجهات تُدار فعليًا من قِبل القادة الميدانيين، وتستند إلى الولاء القبلي والعسكري أكثر من الكفاءة الإدارية. وهذا يعيدنا إلى سؤال مركزي: هل يمكن الحديث عن “دولة” في ظل هيمنة منطق الميليشيا؟
هذه الإشكالية البنيوية تجعل من التأسيس عملية تدميرية أكثر منها بنائية، إذ يُبنى الجديد على أنقاض القديم دون أساس شرعي متين.
ثانياً: وهم الإدارة المدنية في ظل الهيمنة العسكرية
يزعم المشروع التأسيسي إمكانية قيام "إدارة مدنية مؤقتة" تتولى الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة والأمن المحلي. لكن التجارب المقارنة — من أفغانستان طالبان إلى العراق بعد الاحتلال الأمريكي — تشير إلى أن الإدارة المدنية في ظل السلاح تتحول إلى أداة تزيينية تمنح واجهة شرعية لهيمنة عسكرية قائمة.
في مناطق الدعم السريع، يُعيَّن المدنيون بقرارات عسكرية، وتُدار الموارد بمنطق السيطرة لا بمنطق الخدمة. يُضاف إلى ذلك أن غياب الموارد المستقرة يجعل هذه الإدارات رهينة للتمويل الخارجي، أو للتجارة غير النظامية عبر الحدود، ما يُفرغها من مضمونها المؤسسي.
الأهم من إنشاء الهياكل هو تحويل الذهنية من منطق السيطرة إلى منطق الخدمة، وهو تحول لم تشهده أي حركة مسلحة دون ضغط داخلي أو خارجي حقيقي. ففي ظل هيمنة السلاح، تبقى الإدارة المدنية مجرد وهم مرحلي يُستخدم لكسب الاعتراف الخارجي أو تهدئة المجتمعات المحلية.
ثالثاً: الشرعية بين القوة والرمز الشعبي
الشرعية في السودان ليست فقط شرعية مؤسساتية، بل رمزية وثقافية أيضًا. ففي المجتمعات السودانية، تُستمد الشرعية جزئيًا من الأعراف المحلية، والتصوف، والروابط القبلية، والزعامات التقليدية. محاولات الدعم السريع لاكتساب الشرعية من خلال التحالف مع الإدارات الأهلية تمثل إدراكًا لهذا البعد، لكنها تبقى شرعية “مُستعارة” لا يمكن تحويلها إلى مشروعية سياسية دائمة دون عقد اجتماعي جديد.
فالشرعية الحقيقية، كما يفرق توماس هوبز بين السلطة الفعلية والسلطة المشروعة، لا تُمنح بالقوة، بل بالإجماع المجتمعي. وبما أن الدعم السريع يفتقر إلى قاعدة سياسية خارج مناطق نفوذه، فإن شرعيته تظل مؤقتة ومهددة بالانهيار مع أي تغير في موازين القوة.
رابعاً: التعددية الانتقائية وإشكالية التمثيل
في الوقت الذي يرفع فيه الخطاب السياسي في مناطق الدعم السريع شعار “الاعتراف بالتعدد”، تظل الممارسة قائمة على تعدد الولاءات داخل الهيكل العسكري نفسه، لا على تعدد الرؤى أو المصالح المدنية. فلا توجد أحزاب سياسية حقيقية، ولا مجالس تشريعية منتخبة، ولا مؤسسات رقابة مستقلة.
التعددية الحقيقية لا تعني وجود قبائل متعددة تحت راية واحدة، بل تعدد الأصوات في فضاء مدني حر. في غياب هذا الفضاء، تصبح "التعددية" مجرد أداة لتجميل المركز العسكري لا لتوسيع قاعدة المشاركة. هكذا يتحول الحديث عن التمثيل إلى وسيلة للسيطرة، لا أداة للتعبير.
خامساً: من عقلية المنتصر إلى عقلية التعاقد
يدعو بعض المفكرين السودانيين إلى ضرورة “تجاوز عقلية المنتصر”، لكن الواقع يشير إلى استمرار منطق الغلبة. القوة المسلحة نادرًا ما تتنازل عن امتيازاتها طواعية، كما تُظهر تجارب الانقلابات في إفريقيا من الكونغو إلى مالي.
التحول من عقلية السيطرة إلى عقلية التعاقد يتطلب قوى موازية مدنية ومجتمعية قادرة على فرض التوازن، وهي حالياً شبه غائبة في مناطق النزاع. بدلاً من ذلك، تتوزع المناصب داخل بنية الدعم السريع عبر محاصصة داخلية بين الفصائل المسلحة، مما يُعيد إنتاج الانقسام بدل تجاوزه.
سادساً: الدولة كمساحة توافق لا كمنطقة نفوذ
التأسيس الحقيقي للدولة لا يبدأ بإنشاء هياكل إدارية في مناطق النفوذ، بل بإعادة تعريف العلاقة بين السلطة والمجتمع. فالدولة ليست حدوداً يُسيطر عليها السلاح، بل فكرة تقوم على العقد الاجتماعي، والمؤسسات المستقرة، والتداول السلمي للسلطة.
إن بناء الدولة في السودان يجب أن ينطلق من حوار وطني شامل يضم القوى المدنية والمجتمعية، لا من إعادة إنتاج مراكز نفوذ جديدة. ربما يكون الطريق العملي هو إدارة المرحلة عبر هياكل خدمية محايدة ومؤقتة، تُشرف عليها لجان مدنية مستقلة، تحت رقابة أممية أو إقليمية، إلى حين الوصول إلى تسوية سياسية شاملة تعيد تعريف الدولة كمشروع وطني جامع.
حين تبقى الطوبى بعيدة
تظل محاولات “التأسيس” في مناطق الدعم السريع محكومة بحدود السلاح ومحدودية الشرعية. فالدولة التي تُبنى من رحم القوة، تموت غالباً بنفس الأداة التي أنشأتها. أما الدولة التي تُبنى على توافق الإرادات، وشرعية المجتمع، وثقافة الخدمة لا السيطرة، فهي وحدها القادرة على الاستمرار.
إن الطوبى ستظل بعيدة، ما لم يُبنَ الواقع على أسس التوافق لا الغلبة، وعلى عقد اجتماعي جديد يُعيد للسودانيين حقهم في دولة لا تحكمهم بالبندقية، بل تجمعهم بالمواطنة.
المراجع النظرية عن مفهوم الدولة والشرعية
Weber, Max. Economy and Society: An Outline of Interpretive Sociology. University of California Press, 1978.
Hobbes, Thomas. Leviathan: Or the Matter, Forme and Power of a Commonwealth Ecclesiasticall and Civil. Oxford University Press, 1996.
Locke, John. Two Treatises of Government. Cambridge University Press, 1988.
Jean-Jacques Rousseau. The Social Contract. Penguin Classics, 1968.
Charles Tilly. “War Making and State Making as Organized Crime.” In Bringing the State Back In, edited by Peter Evans et al., Cambridge University Press, 1985.
Joel Migdal. Strong Societies and Weak States: State-Society Relations and State Capabilities in the Third World. Princeton University Press, 1988.
Michael Mann. The Sources of Social Power: The Rise of Classes and Nation-States, 1760–1914. Cambridge University Press, 1993.
🔹 ثانياً: دراسات عن الدولة الهشة والمناطق الخارجة عن السيطرة
Rotberg, Robert I. When States Fail: Causes and Consequences. Princeton University Press, 2004.
Zartman, I. William (ed.) Collapsed States: The Disintegration and Restoration of Legitimate Authority. Lynne Rienner Publishers, 1995.
Reno, William. Warlord Politics and African States. Lynne Rienner Publishers, 1998.
Bøås, Morten and Dunn, Kevin C. African Guerrillas: Raging Against the Machine. Lynne Rienner Publishers, 2007.
Clapham, Christopher. Africa and the International System: The Politics of State Survival. Cambridge University Press, 1996.
Bayart, Jean-François. The State in Africa: The Politics of the Belly. Polity Press, 2009.
🔹 ثالثاً: مراجع خاصة بالسودان والسياق المحلي
Flint, Julie and De Waal, Alex. Darfur: A New History of a Long War. Zed Books, 2008.
Young, John. The Fate of Sudan: The Origins and Consequences of a Flawed Peace Process. Zed Books, 2012.
De Waal, Alex. Sudan's Unfinished Democracy: The Promise and Betrayal of a People's Revolution. Hurst Publishers, 2022.
Abdul-Jalil, Musa Adam. Tribal Conflicts and the State in Sudan: Historical Roots and Contemporary Dynamics. Sudan Open Archive, 2014.
Suliman, Mohamed. Civil War in Sudan: The Impact of Ecological Degradation. Oxford Centre for Refugee Studies, 1993.
International Crisis Group (ICG). Sudan’s Crisis: The Unravelling of the State. Africa Report No. 345, 2024.
United Nations Panel of Experts on Sudan. Final Report on the Situation in Darfur. UN Security Council, 2024.
🔹 رابعاً: مراجع عن الحركات المسلحة والتحول إلى الحكم المدني
Jeremy Weinstein. Inside Rebellion: The Politics of Insurgent Violence. Cambridge University Press, 2006.
Paul Collier and Anke Hoeffler. “Greed and Grievance in Civil War.” Oxford Economic Papers, Vol. 56, No. 4 (2004): 563–595.
Christine Cheng and Dominik Zaum. Corruption and Post-Conflict Peacebuilding: Selling the Peace؟ Routledge, 2012.
Stathis Kalyvas. The Logic of Violence in Civil War. Cambridge University Press, 2006.
Mampilly, Zachariah. Rebel Rulers: Insurgent Governance and Civilian Life During War. Cornell University Press, 2011.
🔹 خامساً: مصادر تحليلية سودانية وعربية حديثة
زهير عثمان حمد. “التحول الديمقراطي ومأزق إقصاء الإسلاميين من منظور المواطنة.” مجلة الفكر السياسي السوداني, 2024.
عطاء البطحاني. الدولة السودانية: جدل المركز والهامش. مركز الدراسات السودانية، 2018.
عبد الله علي إبراهيم. الثقافة والديمقراطية في السودان. دار جامعة الخرطوم للنشر، 1996.
النور حمد. مهارب المبدعين: قراءة في أزمة الهوية السودانية. دار عزة، 2010.
حيدر إبراهيم علي. الدين والسياسة في السودان: جدلية النص والواقع. دار رؤية، 2015.
|
|
 
|
|
|
|