غريب أمرنا كسودانيين – سواء بين مستنيرينا وإعلامينا أو بسطاء الناس. فجُلنا يتعامل مع أي كاتب رأي كما لو كان قابلاً للتبديل لحظة بلحظة: في يوم نرفع أحدهم في السماء، وفي اليوم التالي نسقطه أرضاً.
بالأمس، تحدث الإعلامي عثمان ميرغني بما يتسق مع موقف رفض الحرب، وقال أن هناك شعبين سودانيين: أحدهما يعيش مرفهاً في تركيا ويريد استمرار الحرب، بينما يكتوي الآخر بنيرانها ومآسيها في الداخل ولذلك يرغب في توقفها. فهلل الكثيرون لحديثه واعتبروه واحداً من أهم دعاة وقف هذه الحرب اللعينة. ولهذا ظللت طوال يوم أمس أصفق يداً بيدٍ كلما تابعت انتشار حديثه والتعليقات الإيجابية عليه.
وقد بدا لي أن القوم قد نسوا سريعاً أن هذا العثمان ظل يراهن دوماً على حسم الجيش للحرب، أي أنه كان مع استمرارها. وفات عليهم أن الرجل ظل يتقلب في المواقف كما يقلب أي طباخ حبات (الطعمية) داخل الصاج. ونفس هذا الإعلامي هو من قال ذات مرة - كذباً وافتراءً - أن المدنيين تمتعوا بكامل الصلاحيات خلال فترة حكومة د. حمدوك، لكنهم لم يفعلوا شيئاً، ما يعني ضمناً أن القادرين علي الفعل الإيجابي هم العساكر. مع أنني متأكد تماماً من أنه يدرك أن المدنيين لم يتمتعوا ولا بنصف الصلاحيات، ناهيك عن كاملها، وأن انقلاب البرهان سبق فترة تسلمهم لتلك الصلاحيات بأيام قليلة.
وبخلاف ما أشرت إليه أعلاه، كثيراً ما تذبذب عثمان ميرغني في مواقفه، سواء خلال فترة الانتقال أو اثناء هذه الحرب الحالية، محاولاً اللعب علي كل الحبال.
وطالما أننا نتكلم عن حربٍ وموتٍ ودمارٍ وتشريدٍ، فلا يجدر بنا كشعبٍ واعٍ أن نحتفي بمجرد كلمات يتفوه بها من ساهموا في استمرار هذه الحرب لكل هذه السنوات. فالحروب كغيرها من القضايا السياسية، تُبنى مواقفها بالتراكم، لا بالاجتزاء. ومن حرض عليها ولو بكلمةٍ واحدة، فقد أسهم في إطالة أمدها وفي تعقيد المشهد. أما من يحاول اليوم تبرئة نفسه بتصريحات عابرة، فذلك شأنه، وليس من الوعي أن نمنحه أكثر مما يستحق من اهتمام.
تعمدت تناول هذا الموضوع، لأنه لا يخص مواقف عثمان ميرغني وحده، فكثيراً ما ينفعل الناس مثلاً مع مقال إيجابي وحيد لكاتب رياضي يكون قد خالف به مواقفه المخزية السابقة لسبب في نفسه، فتراهم يتناقلونه مصحوباً بتعليقات من شاكلة " شوفوا الكلام المليان! " أو تجد الناس يحتفون بمواقف كاتب رأي رياضي لم يكن قد تطرق لشأن سياسي ولو بكلمة واحدة طوال فترة حكم طغاة الإنقاذ، وحتى خلال أيام الثورة، لكنك تراه قد أصبح فجأة مناضلاً جسوراً خلال هذه الحرب. وهي مشكلة كبيرة تتعلق بتغبيش الوعي لدى الكثيرين، واستغلال هؤلاء الكتاب لضعف ذاكرة الكثيرين. وبما أن المواقف تراكمية - كما أسلفت - وجب التنبيه إلى هذا الأمر، إذ لا يعقل أن نتجاوز عن مواقف كاتب بهذه البساطة بعد أن يكون قد ساهم في كل ما نعانيه من مآسٍ.
ولو أننا نتحدث عن ربة منزل لا تُلم بالسياسة كثيراً، لما قلنا شيئا. لكن ليس مقبولاً أن نصدق أن عثمان ميرغني كاتب الرأي ومالك صحيفة سياسية والمحلل السياسي، أدرك الآن فقط - بعد ثلاث سنوات من القتل والدمار - أن هناك شريحة من الشعب السوداني تعيش مرفهة في تركيا، ولذلك ترغب في استمرار الحرب، بينما يكتوي شعب سوداني آخر في الداخل بنيرانها، وتفتك به الأمراض، ويتضور جوعاً. لذلك، يجب أن نعيد النظر في مواقفنا، وألا نغفل عن التاريخ الطويل لكتّاب الرأي قبل أن نصغي لكلماتهم العابرة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة