بينما تتوالى صور الفظائع من مدينة الفاشر، عاصمة دارفور الكبرى، حيث تتساقط أجساد الأطفال والنساء والشيوخ الأبرياء تحت وابل نيران مليشيا الدعم السريع "الجنجويد"، وتتحول الأحياء إلى مقابر جماعية شاهدة على أبشع عمليات التطهير العرقي والإبادة الجماعية وجرائم حرب، يطل علينا "عرّاب الجنجويد" ومُروّج أجندتهم، الدكتور الوليد آدم مادبو، بمقاله الذي يحمل عنوان: هل يخطط مناوي لاجتياح الشمالية، متى وكيف؟ إن هذا التوقيت بحد ذاته ليس مصادفة، بل هو خُبثٌ مُتعمّدٌ ومُبرمجٌ لصرف الأنظار عن الجريمة الكبرى التي ارتكب في حق الإنسانية في الفاشر، وتحديداً في يوم، الخامس والعشرين من أكتوبر عام 2025، حيث تُسجّل صفحات التاريخ أعمق فصول الدمار والوحشية التي طالت سكان المدينة من القبائل غير العربية. الوليد آدم مادبو، منظّر ميليشيا الجنجويد، يجد اليوم في المجازر التي تشهدها الفاشر، متعةً خبيثةً تتسق تماماً مع أجندته المُعلنة والمُبطّنة، فما يحدث هناك هو تجسيد حيّ لأحلامه الظلامية، إذ كيف له أن ينأى بنفسه عن هذا المشهد الدامي، وأن يمتلك الجرأة ليتحدث عن خطط مناوي المزعومة لاجتياح الشمالية، بينما جرح الفاشر ينزف دما وقهرا؟ هذا ليس تحليلا سياسيا رصينا، بل هو مناورةٌ قذرةٌ لإلهاء الرأي العام، العالمي والمحلي، عن الجرائم التي يشارك في التحريض عليها فكريا وسياسيا. عزيزي القارئ.. يبدأ مقال "عرّاب الجنجويد"، بسلسلة من التناقضات الصارخة التي تُكشف بوضوح غايته الملتوية، فالدكتور مادبو، الذي اعتاد في مقالاته السابقة أن يلعن الشمالية ويُحمّلها وزر كوارث السودان بأكملها، وأن يصفها بالمركزية المُتغطرسة التي تستنزف البلاد، نجده اليوم يبكي خطر اجتياح مناوي لها! أي نفاق هذا، وأي وجه يمتلكه هذا المنظّر الذي يتقلب كالأفعى لتلائم مصالحه اللحظية؟ هل أصبحت الشمالية فجأة مُقدّسة في عينيه، بعد أن كانت ملعونة، أم أن الأمر يتعدى ذلك إلى خوف دفين، ربما يتعلق بتغيّر الخريطة الديموغرافية والسياسية التي طالما سعى لتشكيلها وفق رؤيته العنصرية؟ يقول مادبو، إن الشمالية وإن كانت بلا قيمة عسكرية حقيقية، تظل ذات رمزية سياسية وثقل تفاوضي محتمل، وهنا يكمن مربط الفرس في خبثه، لأنه إذا كانت بلا قيمة عسكرية، فلماذا كل هذا الهلع، ولماذا يُسخّر قلمه لتحليل خطر اجتياحها؟ الإجابة واضحة: الخوف ليس من القيمة العسكرية للمنطقة، بل من تغيّر ميزان القوى الذي يهدد أجندة الحواضن العربية التي يُمثّلها. إنه يرى في أي تواجد للزُرقة في مناطق القلب العربي الشمالي المُتصور، خطرا وجوديا على مشروعه العنصري، حتى لو كان ذلك التواجد مجرد رمزية سياسية، وهذا ما يفضح تناقضاته ويُعرّي رؤيته الضيقة والمُتخلفة. د. الوليد مادبو، لا يرى وطنا سودانيا جامعا، بل يرى مساحات تُقسم وتُجزّأ بناءا على معايير عرقية مُخجلة، وهو ما يقوده إلى تلوين الشمالية بين اللعن والخوف حسبما تقتضي مصلحته الحالية في تشتيت الانتباه عن جرائم الفاشر. يمضي مادبو في مقاله ليُصوّر مني أركو مناوي كمرتزق بارع في استخدام كل شيء، القبيلة، الجغرافيا، الشعارات، والمعاناة الإنسانية. إن هذا الوصف لا يصدر إلا من عقل مريض لا يرى في الصمود إلا خيانة، وفي الدفاع عن النفس إلا ارتزاقا، فلنفكك هذا الادعاء المسموم: 1/ ليس خياره بين النصر والهزيمة، بل بين الفناء والمقايضة. هذه العبارة بحد ذاتها، التي استخدمها مادبو لوصم مناوي، هي في الحقيقة **توصيفٌ دقيقٌ للواقع المرير الذي دفع إليه أمثال مادبو من خلال دعمهم للأجندات التفتيتية للمليشيا المجرمة. عندما تُدفع مجتمعات بأكملها إلى حافة الإبادة، فإن خيارها يصبح بالفعل بين الفناء أو البحث عن أي وسيلة للبقاء، حتى لو كانت المقايضة، وهذا ليس ارتزاقا، بل هو محاولة يائسة للنجاة في وجه عدوان لا يرحم، إذ مَن الذي أوصل هذه المجتمعات إلى هذه النقطة المأساوية، أليس هم عرّابو العنف والتطهير العرقي أمثال الوليد مادبو؟ 2/ التمركز في الشمالية ونهر النيل، خطوة استباقية لتأمين الورقة الأخيرة في لعبة طويلة. إن تحليل مادبو لتمركز قوات مناوي في الشمالية ونهر النيل، وإن كان يهدف إلى وصمه بالانتهازية، يكشف في حقيقته عن رؤية استراتيجية براغماتية في ظل دولة مُتفسخة وجيش مُنقسم، فهل يُلام قائدٌ يبحث عن موطئ قدم يحمي به شعبه ومكتسباته في خضم فوضى شاملة أشعلها أمثال مادبو وعرابو الجنجويد؟ عندما ينهار الوطن ويتحول إلى غابة، يصبح البحث عن أوراق تفاوضية ضرورة للبقاء، لا جريمة تستحق الشجب. إن مادبو يعلم أن الشمالية، وإن كانت بلا قيمة عسكرية حقيقية كما يزعم، فإنها تظل ذات رمزية سياسية وثقل تفاوضي محتمل، وهذا بالضبط ما يجعلها هدفا استراتيجيا لأي طرف يسعى لتأمين موقعه في أي تسوية قادمة، والسؤال هنا، هل يلوم مادبو مناوي على قراءته للواقع، أم يلومه لأنه قرأه بشكل يخدم مصالح شعبه وليس ميليشيا الجنجويد؟ 3/ التردد في خوض معركة أمدرمان: ليس ضعفا ولا حذرا عسكريا بريئا، بل استشعارا لورطة استراتيجية. هنا يقلب مادبو الحقائق رأسا على عقب، إذ هل أصبح اتخاذ القرارات العسكرية الحكيمة التي تتجنب الوقوع في فكي كماشة جريمة؟ هل يريد مادبو أن يرى مناوي وقواته يهلكون في معركة غير محسوبة لكي يشفي غليله؟ إن هذا ليس تحليلا، بل هو تمني خبيثٌ بالزوال، لأن تجنب الانتحار في أمدرمان هو عين العقل، لا دليلا على الارتزاق، بل إن الإصرار على خوض معارك طائشة هو علامة على اليأس أو الغباء، وكلاهما لا يخدم مصالح الشعب السوداني. إن ما يصفه مادبو بـإستشعار لورطة استراتيجية، هو في الحقيقة حكمة عسكرية تدرك تعقيدات المشهد، وتُفضّل البقاء في المناطق الآمنة لإعادة تنظيم الصفوف وحماية القواعد بدلا من التضحية بها في معركة رمزية لا تُطعم جائعا ولا تُنقذ قائدا، وهو ما ذكره مادبو بنفسه، فكأنه يصف مناوي بالحكمة ثم يذّمه!! 4/ تخفيف لغته العدائية ودعوته للحلف السياسي: ليست دعواتٍ للسلام، بل محاولاتٌ لبناء جسر نحو صفقة جديدة. يُصوّر مادبو أي محاولة من مناوي للابتعاد عن لغة الحرب والتوجه نحو الحل السياسي، على أنها محاولات لبناء جسر نحو صفقة جديدة، وليس دعوات للسلام. إن هذا التفسير، لا يدل إلا على ذهنية حرب لا تعرف سبيلا للسلام، لأن عندما يدعو مادبو إلى تحويل كل بادرة نحو الحل السياسي إلى صفقة وجودية، فإنه في الحقيقة يُكشّف عن خوفه من أي تسوية سلمية لا تخدم مصالحه الأحادية، إذ أي عقل سويّ هذا، يرى في الدعوة للحل السياسي خبثا وتآمرا، ألا يفترض أن تكون هذه هي الغاية النبيلة لأي سياسي حريص على وطنه؟، لكن بالنسبة لعرّاب الجنجويد، السلام يعني نهاية الأجندة العرقية، ونهاية دولة دارفور العربية المزعومة، وهذا ما يرفضه ويُحاربه بشراسة. فاشر الدماء: مَن الذي يجرّد الحرب من معناها الأخلاقي؟ ثم يأتي مادبو بالاتهام الأفظع، ليقول، إن تسليحه اركو مناوي للنساء والأطفال في الفاشر لم يكن تصرفا عاطفيا، بل إعلانا صارخا بانهيار الفارق بين المواطن والمقاتل، بين المجتمع والميليشيا. هنا تتجلى قمة الخُبث والفجور، في الوقت الذي يذبح فيه أطفال ونساء الفاشر على يد مليشيا الجنجويد التي يدعمها مادبو فكريا وسياسيا، يتهم مناوي بتسليح النساء والأطفال وكأن ذلك هو الجريمة الأفظع!! دعونا نسأل مادبو: مَن الذي أجبر النساء والأطفال على حمل السلاح، إن صح هذا الادعاء المريض، أليسوا هم من يُطهّرون عرقيا، ويُقتلون بدم بارد، وتُغتصب نساؤهم، وتُحرق بيوتهم على أيدي المليشيا التي لا تُميّز بين مُقاتل ومواطن؟ عندما تنهار الدولة، ويهجر الجيش مسؤولياته، ويتخلى الضمير العالمي، ويُترك المدنيون عُزلا في وجه وحشية الإبادة، فماذا يبقى لهم سوى الدفاع عن أنفسهم بأي وسيلة، إن لم يكن هذا نداءا فطريا للبقاء، فماذا يكون؟ إن "عرّاب الجنجويد"، لا يرى في دفاع المستضعفين عن حياتهم إلا تجرد الحرب من معناها الأخلاقي، بينما يغض الطرف عن تجريد الجنجويد للحياة نفسها من معناها الإنساني. عبارته من ينجو يُعتبر محقا، ومن يُقتل يُعتبر ساذجا، ليست وصفا لفلسفة مناوي، بل هي الفلسفة المُنحطّة التي تتبناها مليشياته، والتي تُطبّقها بحذافيرها في الفاشر اليوم. إنها فلسفة البقاء للأقوى، والبقاء للمُجرم، حيث تُصبح الإبادة وسيلة للحق، والقتل للسذاجة، إنه يقلب الحقائق رأسا على عقب، ويُسقط جرائمه وجرائم حلفائه على من يُدافع عن نفسه. مأساة السودان: حين يصبح الولاء سلعة، ويقود المرتزق! يُختتم مقال مادبو بلغة رثائية عن مأساة السودان، وتحوّل الولاء الوطني إلى سلعة تفاوضية، وانحراف الانتماء إلى عبث الارتزاق، ولكن السؤال الصارخ هو: مَن الذي حوّل الولاء الوطني إلى سلعة، ومَن الذي جعل الانتماء امتيازا لا واجبا، والوطن مساحةً لمن يملك السلاح لا لمن يصون الحق؟ أليست أجندة عرّاب الجنجويد التي سعت لتقسيم السودانيين على أساس عرقي وقبلي، والتي بررت العنف ضد فئات معينة، هي التي حطّمت مفهوم الوطنية الجامعة؟ أليست المليشيا التي يدعمها الوليد مادبو، والتي تُمارس الإبادة والتطهير العرقي، هي التي أفرغت الانتماء الوطني من محتواه وجعلته مجرد غريزة بقاء تُحرّكها المصالح؟ أن الولاء الوطني الذي كان يوما عقد شرف بين الإنسان وأرضه، تحوّل إلى سلعة تفاوضية في سوق الفناء، وأن القائد، حين يفقد بوصلته الأخلاقية، يصبح مجرد مرتزق يساوم على أنقاض الوطن. هذه الكلمات، لو نُزعت من سياقها الخبيث، لكانت تصف تماما الواقع الذي خلقه أمثال الوليد آدم مادبو، فالقادة الذين فقدوا بوصلتهم الأخلاقية، هم من يحرّضون على التطهير العرقي، ويدعمون المليشيا الخارجة عن القانون، ويُبرّرون قتل الأبرياء. هؤلاء هم المرتزقة الحقيقيون، ليس بالمعنى العسكري المباشر، بل بالمعنى السياسي والأخلاقي، لأنهم يساومون على وحدة الوطن وسلامة أبنائه في سبيل أجنداتهم الضيقة والمُتخلفة. إن السودان لا ينهار بسبب المرتزقة الذين يُدافعون عن وجودهم، بل ينهار بسبب العرّابين الخُبثاء من أمثال الوليد مادبو، الذين يُشعلون الحروب ويُبرّرون الإبادة، ثم يلومون ضحاياهم على ردود أفعالهم. طريق الخلاص: ليس بانتصار فصيل، بل بتجريد الخُبث وكشف العرّابين.. في الختام، يُختتم مقال مادبو بدعوة عامة لتحرر الإنسان من منطق الصفقة، واستعادة قدرته على الاختيار الأخلاقي. إنها دعوة مُضحكة مُبكية في آن واحد، كأنها صدرت من أستاذ في الأخلاق، لا من عرّاب لأفظع الجرائم ضد الإنسانية. إن التحرر من منطق الصفقة، يتطلب أولا التخلص من الأيديولوجيات العرقية والمناطقية التي تُحوّل البشر إلى مجرد أرقام وصفقات، يتطلب محاسبة كل مَن حرّض وشارك في الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في دارفور، وفي الفاشر على وجه الخصوص. طريق خلاص السودان، لن يكون بانتصار فصيل على آخر، بل باستعادة العدالة، وإنهاء الإفلات من العقاب، وكشف الخُبث المُتأصّل في أفكار أمثال الدكتور الوليد آدم مادبو، الذي يستخدم قلمه للتضليل وصرف الأنظار عن الجرائم الحقيقية. إن ميلاد وطن لا يُدار بعقل المرتزق، بل بروح الإنسان، لن يتحقق إلا عندما نُعلّي صوت العقل والضمير فوق صوت البندقية، وفوق صوت عرّاب الجنجويد الذي يُروّج للفرقة والدمار. **************** إن ما يفعله عرّاب الجنجويد ومن على شاكلته، ليس كتابة ولا رأيا، بل هو امتدادٌ لحرب بالمداد لا تقل إجراما عن الحرب بالرصاص، فالكلمة حين تُروّج للقتل وتُزيّن الغدر، تصبح هي الأخرى رصاصة في صدر الوطن. لقد انكشف القناع، وسقطت البلاغة المسمومة التي يُتاجر بها مادبو، لتبرئة المجرمين وتلويث الضحايا، وآن للأصوات الحرّة أن تكتب بمداد الحقيقة لا بدم الكراهية. السودان اليوم لا يحتاج إلى منظّرين للدم ولا إلى صُنّاع خُبث يحركون الجماجم من وراء الكيبورد، بل يحتاج إلى ضمير يُقاوم، وعقل يرفض أن يتحوّل إلى شاهد زور على الإبادة. لن تُطمس الفاشر من الذاكرة، ولن يُخمد دفنها في رماد التضليل صوت العدالة، لأن التاريخ لا يرحم الأقلام التي خانت الوطن، ولا ينسى وجوهَ من سكَبوا السمَّ فوق الجراح. ليكتب المجرمون ما شاءوا، وليُحرِّضوا كيف شاءوا، فإن حبرهم سيبقى شاهدا على خيانتهم، وسيُبقي صوت الدم أعلى من صوت الخبث.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة