من يقرأ بيان الحزب الشيوعي السوداني الصادر في 28 أكتوبر 2025 يخرج بانطباعين متناقضين يكشفان عمق الأزمة الفكرية والسياسية التي يعيشها هذا الحزب ومعه بقية أحزاب النخب ومنظماتها المدنية. أولًا، هذا الحزب لا يزال حبيس عقلية الستينيات، غارقًا في خطاب "الطهر الثوري" الذي يقسم الواقع إلى ثنائيات تبسيطية: "ذات نقية" و"آخر مدان"، دون وعيٍ بالبنية المعقدة للعنف والدولة والتاريخ. يواصل الحزب الحديث بلسانٍ أخلاقي منزّه، كأن تاريخه لم يتورط في أي من المآسي التي يدينها اليوم. وثانيًا، أنه يمارس – من حيث لا يدري – الدور ذاته الذي مارسته النخب المركزية منذ الاستقلال: الاحتفاظ بالامتياز الأخلاقي والسياسي دون دفع ثمن التغيير الجذري، مكتفيًا بلعب دور المراقب الناقد لا الفاعل المشارك في تفكيك الدولة التي ساهم في بنائها! فالحزب، في الوقت الذي يُدين فيه مجازر الفاشر وبارا — وهو موقف إنساني نحترمه — يتناسى أنه نفسه جزء من الشرعية التاريخية لآلة الدولة المركزية التي أنجبت هذا العنف. فمنذ الخمسينيات، لم يطرح الحزب مشروعًا حقيقيًا لإعادة تأسيس الدولة على أسس علمانية، لا مركزية، وديمقراطية تعترف بحق تقرير المصير. ظلّ يتنقل بين التحالفات الانتهازية والتواطؤات المرحلية مع الأنظمة المتعاقبة — من عبود إلى مايو إلى ما بعد ديسمبر — متقنًا فن المساومة دون أن يجرؤ على مواجهة جوهر الأزمة: بنية الدولة نفسها- انه فن تخدير الجماهير! ولأن الحزب عاجز عن تقديم مشروع بديل، نراه اليوم يحاول — في كل بيان — النيل من تحالف "تأسيس"، الذي يطرح مشروعًا تأسيسيًا جديدًا لإعادة بناء الدولة السودانية على أسس العدالة والعلمانية والمواطنة المتساوية. فبدل أن ينخرط في النقاش الفكري والسياسي الجاد حول هذه الأسس، يكتفي الحزب بالاتهامات والمزايدات الأخلاقية، مفضلاً البقاء في موقع "الضمير الثوري" الذي يصرخ من بعيد دون أن يُقدِّم بديلاً عمليًا للمواطنة المتساوية. ومع ذلك، أثبتت قوى تحالف "تأسيس" أنها تمتلك وعيًا سياسيًا ومسؤولية أخلاقية أعلى من بيانات الوعظ الأيديولوجي الموسمية؛ فقد أدانت كل التجاوزات والانتهاكات بلا استثناء، وطالبت بتحقيقات مستقلة وتفعيل آليات الميثاق التي ترفض الإفلات من العقاب وتؤكد على مبدأ العدالة الشاملة. إنّ الحزب الشيوعي السوداني، في محاولته اليائسة للنيل من مشروع "تأسيس"، لا يُعبّر عن ثورية بل عن خوفٍ من التحول التاريخي. فهو يريد أن يحتكر تعريف الثورة، بينما يرفض جوهرها! قال فريدريك إنجلز: "الثورة هي الفعل الأكثر استبدادًا الذي يمكن أن تقوم به الطبقة المقهورة، لأنها لا تملك خيارًا آخر سوى تحطيم آلة الدولة القديمة." لكن الحزب الذي يدّعي الثورة لم يواجه هذه الآلة يومًا، بل اكتفى بإدارتها أو التعايش مع رموزها. إنه، ببساطة، ضميرٌ يصرخ بلا وعي تاريخي. اوكما قالت حنة أرندت: " ما يمكن أن يفعله الضمير هو أن يصبح بديلاً عن التفكير." وهذا بالضبط ما يفعله الحزب اليوم: يرفع صوته باسم الضمير، لكنه يعجز عن التفكير في الجذور. ضميرٌ بلا تفكير… وبيانٌ بلا مشروع.
الثورة في الفكر الماركسي: عنف التاريخ لا رومانسية النضال: حقيقة لا يوجد تغيير بلا تضحيات، ولا ثورة بلا كلفة. فالثورة حين تبدأ، تشبه السيل الجارف؛ لا أحد يستطيع التنبؤ إلى أين تتجه، أو من تجرف في طريقها. إنها لحظة انفلات التاريخ من قبضة النظام القديم الباطش، لحظة يتجسد فيها عنف التحول لا رومانسية النضال. حين يصف الحزب الشيوعي السوداني ومن لف لفه "النضال الجماهيري السلمي" بأنه الطريق الوحيد نحو العدالة، فإنه ينقض بذلك جوهر الماركسية نفسها! كتب كارل ماركس في الصراع الطبقي في فرنسا: "الثورة ليست حدثًا أخلاقيًا، بل ضرورة مادية تنفجر عندما تستنفد البنية الاقتصادية القديمة شروط وجودها." ففي المنظور الماركسي، ليست الثورة خطابًا إنسانيًا منمّقًا، بل عملية تاريخية تتجلى فيها قوة الصراع الطبقي بأقصى درجاتها، حين تُستنفد كل إمكانيات الإصلاح ويصبح العنف أداة التاريخ لإعادة الميلاد، ولكن هذا الحزب مستهبل، يريد تخدير الجماهير بالاحتيال لتبقي علي ماهي عليه من تهميش، ويبقي هو علي ماعليه من امتياز! لقد كانت الثورات الماركسية الكبرى دموية بالضرورة، لا لأن الدم كان غاية، بل لأنه كان الثمن الطبيعي لتحطيم البنى التي تأسست على القهر. من الثورة البلشفية عام 1917 التي أطاحت بنظام القيصر بالحديد والنار، إلى الثورة الصينية عام 1949 التي حطّمت الإقطاع والهيمنة الغربية، إلى الثورة الكوبية عام 1959 التي لم تُبنَ باللافتات بل بالبندقية في الجبال، إلى فيتنام، نيكاراغوا، وأنغولا وموزمبيق، كلها تجارب تقول بوضوح: لا ثورة بلا مواجهة، ولا مواجهة بلا وعي بالعنف الكامن في النظام نفسه، ان كان ثمة ثمن فدفعه واجب. وفي أفريقيا والعالم العربي، لم تكن الثورات الشيوعية تحديدا أقل قسوة: فحركات التحرر في أنغولا، وإثيوبيا، واليمن الجنوبي، وسوريا، كلها شهدت فصولًا دامية من الصراع بين القديم والجديد، بين الاستعمار وأدواته والشعوب الباحثة عن خلاصها. تلك ليست انحرافات أخلاقية، بل تجليات عنف التاريخ حين يعيد صياغة العالم على نحوٍ جديد. وهنا نستعيد قول فرانز فانون في معذبو الأرض: "إنّ المستعمَر لا يتحرر بالكلمات، بل بتحطيم العالم الاستعماري ذاته، وكل محاولة لتطهير هذا العنف هي خيانة للإنسانية" لكن الحزب الشيوعي السوداني اليوم يتعامل مع الحرب وكأنها اختراع محلي جديد من المهمشين في دارفور أو كردفان، متناسيًا أن العنف ليس طارئًا على التاريخ السوداني، بل هو بنية راسخة في الدولة المركزية التي طالما دافع عنها. فما نعيشه اليوم ليس انفجارًا فجائيًا، بل النتيجة المؤجلة لعدالة تاريخية لم تتحقق، تمامًا كما حذّر فانون قبل أكثر من ستين عامًا حين كتب أن "كل مستعمَر إذا لم يُعطَ فرصة العدالة، سيستعيدها بالعنف" وهكذا، فإن العنف الذي يتبرأ منه الحزب الشيوعي اليوم ليس وليد الميدان، بل وليد التاريخ الذي ينكره!
حين تصبح الماركسية ملاذًا للنخبة: تشومسكي وريكور يفسّران العطب: إنّ الحزب الشيوعي السوداني لم يعد حزبًا للطبقة العاملة كما يدّعي، بل حزبًا للطبقة المتعلّمة المأزومة. ينتج بيانات أكثر مما ينتج وعيًا. يتحدث عن الإمبريالية كما لو كانت نظرية، لا واقعًا اقتصاديًا واجتماعيًا متجذرًا في الخرطوم ذاتها. كتب نعوم تشومسكي: "اليسار الذي يكرر اللغة الثورية دون أن يربطها بحياة الناس اليومية يصبح جزءًا من جهاز الخداع الأيديولوجي للنظام" وهذا ما نراه في بيان الحزب: كلمات عن العدالة، لكن لا تحليل للعلاقات الاجتماعية التي أنتجت الحرب. لا حديث عن هيمنة المركز، ولا عن العدالة التاريخية، ولا عن حق تقرير المصير، ولا عن إعادة تأسيس الدولة! إنّ ما يمارسه الحزب هو أخلاقية بديلة عن الثورة — أخلاقية تُخدر الوعي وتُقدَّم كضميرٍ قومي، لكنها تخفي خلفها نرجسية النخبة التي تخاف التغيير لأنها ستفقد دورها "التوجيهي" الذي اعتادت عليه. يقول بول ريكور في الذات كآخر: !"حين يتحدث الضمير دون أن يصغي إلى التاريخ، يصبح الأخلاق مجرد تعالٍ فوق أنقاض الواقع"
: من موسكو إلى الخرطوم: تاريخ الدم في التجارب الشيوعية الثورات الشيوعية، في جوهرها، لم تكن يومًا وردية أو رومانسية كما يتوهم البعض؛ لقد كانت دومًا عنيفة لأنها جاءت لتحطم بنى القهر لا لتجمّلها. فالتاريخ الماركسي، منذ بداياته، يقرّ بأن الثورة لا تكون إلا عبر الصدام. كتب هيغل في ظاهريات الروح: "العنف هو القابلة التي تلد التاريخ من رحم الألم" لقد شهد القرن العشرون فظائع كبرى ارتُكبت باسم الشيوعية: ـ ستالين أعدم مئات الآلاف في "تطهيراته الكبرى"، وسجن الملايين في معسكرات الـ"غولاغ" - بول بوت في كمبوديا جعل من الماركسية مشروع إبادة جماعية تحت شعار "العودة إلى الصفر" - وفي تشيلي وكوبا ونيكاراغوا، سالت الدماء بين الرفاق باسم "تصحيح المسار" هل كانت هذه جرائم؟ نعم. وهل يمكن فهمها في سياقها التاريخي؟ نعم أيضًا. لأن الفكر الماركسي لا ينكر العنف، بل يراه ضرورة تاريخية لتحطيم النظام القديم وإعادة إنتاج التاريخ نفسه! لكن المفارقة أن الحزب الشيوعي السوداني يريد أن يحتفظ بإرث الثورة دون مسؤوليتها، وأن يدين العنف من طرفٍ واحد وكأن يديه نظيفتان من تاريخ الدم. غير أن ذاكرة السودان لا تنسى. فمنذ الخمسينيات، كان الحزب طرفًا فاعلًا في سلسلة من الانقلابات العسكرية التي أطلقت موجات من القمع والعنف السياسي، بدءًا من 1959، مرورًا بانقلاب هاشم العطا في يوليو 1971 الذي أشعل واحدة من أكثر مراحل السودان دموية، وصولًا إلى مشاركته الفكرية والتنظيمية في تحالفات قادت لانقلابات لاحقة باسم "اليسار الوطني"... لقد أُعدم قادة الحزب بعد انقلاب 1971، لكنّ الدم الذي سُفك في تلك الأيام لم يكن دمًا بريئًا تمامًا، بل نتاجًا لمنطق الصراع المسلح الذي تبناه الحزب في صراعه مع خصومه. لقد تحوّل السودان، كما الاتحاد السوفيتي من قبله، إلى ساحة تجريب ماركسي مشوّه، يُستباح فيها العنف باسم التحرر...فعلام العنطزة!؟ إن الحزب الذي يُدين اليوم عنف الآخرين، كان بالأمس جزءًا من ماكينة الدولة التي شرعنت الإعدامات، وساهم بعض أعضائه في خطاب الكراهية ضد خصومهم، وشارك في تبرير "القمع الثوري" بوصفه ضرورة تاريخية. وهنا تتجلى المفارقة الكبرى: من موسكو إلى الخرطوم، يتكرر المشهد ذاته — العنف باسم العدالة، والدم باسم الثورة، ثم النسيان باسم الطهر الثوري! الحزب الشيوعي السوداني، وهو يُدين اليوم المجازر في الفاشر وبارا، يتناسى أن العنف الذي يرفضه هو المرآة التي تعكس تاريخه. يريد أن يُدين آلة القمع دون أن يعترف بأنه ساهم في بنائها، وأن خطابه المركزي ما زال متشبثًا بالعقلية ذاتها التي جعلت من "الثورة" وسيلة للاحتفاظ بالامتياز، لا لتحرير الإنسان...والسودان الجديد هو الطريق لتحرير الانسان.
الدم السوداني لا يُنتقى: النفاق الأخلاقي للحزب: يقول الحزب في بيانه: "نقف ضد مجازر الفاشر وبارا." ونقف معه في هذا الموقف الإنساني، لأن الدم السوداني واحد. لكن أين كان هذا الصوت الجهور حين كانت مجازر، النيل الأزرق، جبال النوبة، دارفور الأولى؟ أين كان الحزب حين كانت الدولة المركزية تمارس القتل باسم "الجيش الوطني" وتصنع المليشيات بما فيها الدعم السريع نفسه؟ لم نسمع هذا الغضب العارم. لم نرَ هذا التنديد الجهور! كتب إريك فروم في الخوف من الحرية: ."الضمير الانتقائي ليس ضميرًا، بل أداة تبرير للذات" إنّ الدماء لا تُجزأ. ولا يمكن لحزب يدّعي الماركسية أن يمارس التطهر الأخلاقي بينما يتجاهل جذور العنف الكامنة في الطبقات الاجتماعية التي كان ولايزال هو جزءًا منها- ويكفي احتيالا!
أخيرا، عن الحاجة إلى الحكمة والشجاعة الثورية لا الطهرانية: السودان اليوم لا يحتاج إلى وعّاظٍ يوزّعون الإدانات من أبراجهم الأخلاقية، بل إلى مؤسسين يعيدون صياغة الدولة من جذورها، ويحوّلون الألم إلى مشروع تاريخي جديد. نحن بحاجة إلى فعل تأسيسيٍّ لا إلى بياناتٍ موسمية، إلى وعيٍ يواجه المأساة من أصلها لا إلى خطبٍ تخدّر الضمير. لقد فشل الحزب الشيوعي السوداني لأنه رفض النظر في جذور الأزمة البنيوية للدولة السودانية. رفض العلمانية بذريعة "المرحلة"، ورفض حق تقرير المصير بحجة "الوحدة الوطنية"، ورفض تفكيك الجيش وبناء جيش جديد بدعوى أنه "مؤسسة وطنية تحتاج فقط إلى إصلاح". وهكذا ظلّ الحزب يراوح مكانه في منطقة رمادية، يرفع الشعارات ذاتها منذ ستة عقود، بينما يتبدل العالم من حوله! إنه، كما يقول الفيلسوف التشيكي كشيسلوفسكي، حزب "الثبات على الإرجاء" حين تتحول الثورة إلى وعدٍ مؤجل، تصبح الماركسية "طقسًا من الحنين!" ولنذكر انه من المستحيل لاي سوداني كان الحديث عن "العدالة" دون الاعتراف بتاريخ الحزب نفسه. والسودان، وهو ينزف اليوم، لا يحتمل النفاق الأخلاقي، ولا يسارًا بلا وعي، ولا ثورية بلا حكمة او شجاعة تاريخية. نعم، يجب أن تُدان كل انتهاكات حقوق الإنسان بلا استثناء ولا تبرير، ولكن من يتحدث باسم العدالة يجب أولًا أن يعترف بمسؤوليته عن قصوره في مواجهة العدالة و عن التاريخ قبل أن يُحاكم الآخرين. كتب فرانز فانون: "إنّ واجبنا أن نعيد الثورة إلى الناس لا إلى الأحزاب". فالسودان اليوم يحتاج إلى ثورة وعيٍ لا طقس بيانات، إلى تأسيسٍ لا تطهرٍ زائف، إلى صدقٍ لا مراوغة. إن العدالة لا تكون بالانتقائية، والثورة لا تُختزل في بيانات الغضب، لأنّ دماء الهامش ليست أقل من دماء المدن. على الحزب الشيوعي السوداني ومن لف لفه، أن يدرك أنّ من يتاجر بالأخلاق بينما يتجاهل جذور المأساة، إنما يهيئ لتكرارها. وما دام يسعى إلى النيل من تحالف "تأسيس" بهذه الخفة والانتهازية الفكرية والسياسية، فإنه لا يفعل سوى الدفاع عن امتيازاته القديمة. أما "تأسيس"، فهو اليوم يظل الإطار الوحيد الذي يطرح معالجةً جذرية لأزمة السودان - مشروعًا يقوم على العدالة التاريخية، والعلمانية، والديمقراطية واللامركزية، وبناء جيش جديد- بناء وطنٍ جديدٍ لا يتبنى رؤية السودان القديم، بل يفتح أفقًا لميلاد دولة تستحق أن تُسمّى: سودان جديد.
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة