تَبكي الفاشر اليوم، لا دمعا بل دما، وفي حنجرتها غصةٌ لا تُبارحها، وسهم غدر لم يأتها من حيثُ ظنت ألا يأتي. في السادس والعشرين من أكتوبر من العام 2025م، انطفأت شمعة الصمود في عاصمة دارفور الكبرى، بعد أن دخلتها ميليشيا الدعم السريع من كل المحاور، بعد حصار أدمى القلوب، وصمت أطبق على الآذان. إنها ليست مجرد هزيمة عسكرية، بل هي خيانةٌ مُدوية، سجلها التاريخ بأحرف من عار، وتتحمل مسؤوليتها، بكل وضوح وقسوة، قيادةٌ تآمرت على نفسها وعلى شعبها، وعلى رأسها الفريق أول عبدالفتاح البرهان. نعم، إن سقوط الفاشر يتحمل مسؤوليتها أولا وأخيرا عبدالفتاح البرهان، وكُل محاولة لتوزيع التهم، أو تدوير الزوايا، لن تُغطي شمس الحقيقة الماثلة أمامنا كصخرة صماء. لأكثر من سنتين، كانت الفاشر قصةً حيةً تُروى عن الصمود الأسطوري في وجه حصار مُحكم لا يُبقي ولا يذر. كانت المدينة محاصرة جوا وبراً، تتعرض لقصف عشوائي لا يُميز بين مدني ومقاتل، وبين طفل وشيخ ونساء. كان أهلها يعيشون على هامش الحياة، يُنازعون الجوع والمرض وشح الدواء، كل يوم يمر عليهم هو معركةٌ بحد ذاتها، يخوضونها بصدور عارية وإيمان بأن هناك من سيُدرك حجم مأساتهم، وبأن هناك جيشا وقائدا لن يتخلى عنهم. كانت الفرقة السادسة مشاة هناك، تُقاتل ببسالة تُضاهي أساطير الأولين، تدافع عن كل شبر من أرض المدينة، ولكنها كانت تُدرك، كما يُدرك كل ساكن في الفاشر، أن الصمود لا يكفي وحده في وجه آلة الحرب الشرسة لميليشيا الدعم السريع. لقد كانت الفاشر منارة، لا للصمود العسكري فحسب، بل للصمود الإنساني في وجه أقسى ظروف التخلي والإهمال، وكان أهلها ينتظرون بصيص أمل، إشارة واحدة تُفيد بأنهم ليسوا وحدهم. لقد كانت نداءاتهم اليومية لا تتوقف، من المساجد، من بيوت العزاء، من مجالس الأحياء، ومن حناجر النساء والأطفال، كانت الأصوات ترتفع وتخترق سماء دارفور، لتصل إلى مسامع القيادة العسكرية في بورتسودان، وبالأخص، إلى مسامع الفريق أول عبدالفتاح البرهان. نداءاتٌ كانت تطلب أبسط مقومات البقاء: سلاحٌ يُعزز به المقاتلون صمودهم، دواءٌ يُداوي به المرضى جراحهم، غذاءٌ يُسكت به جوع الأطفال. كانت كل هذه النداءات تتبخر في فضاء اللامبالاة والتجاهل المُميت، كان يُقال لهم الفرج قادم، الصبر مفتاح الفرج، سنرسل الإمدادات، لكن الفرج لم يأتِ، والصبر لم يفتح سوى أبواب اليأس، والإمدادات لم تصل سوى في خيالاتهم المُرهقة. صمت القبور: تجاهلٌ متعمدٌ ومكائدُ خلف الكواليس.. كان صمت البرهان وتجاهله لتلك النداءات المتكررة على مدار أكثر من عامين، لا يمكن تفسيره إلا بكونه صمتا متعمدا، وتجاهلا ممنهجا، فكيف لقائد جيش أن يتجاهل استغاثات مدينة كاملة، تُعد مركز ثقل استراتيجيا وبشريا، تُحاصر من قبل ميليشيا تُهدد وجود الدولة ذاتها؟ هل كان البرهان مشغولا بحسابات أخرى، هل كانت أولوياته تختلف عن إنقاذ أرواح المدنيين وصون كرامة جنوده؟ الأيام والشهور قد توالت، والمدينة كانت تُنزف، وأبطال الفرقة السادسة كانوا يُقاتلون بأسلحة شحيحة وذخائر محدودة، في حين أن القيادة العليا كانت تُمسك بخيوط اللعبة من بعيد، وكأن الفاشر ليست جزءا من السودان، أو كأن أرواح أهلها ليست سودانيةً تستحق الدفاع عنها. لا يمكن لقائد أن يدعي الوطنية أو الشرف العسكري، وهو يُشاهد بعينيه مدينته تُحرق، وشعبه يُذبح، وجنوده يُقتلون، ثم يختار الصمت والعجز، أو الأسوأ، يُختار التجاهل المُتعمد. إن التلكؤ في إمداد الفرقة السادسة مشاة بمدينة الفاشر بالسلاح والاحتياجات اللازمة لفك الحصار المفروض عليها، ليس مجرد خطأ تكتيكي أو تقصير إداري، بل إنه قرارٌ مُتعمدٌ بالتخلي، قرارٌ أملته، بلا شك، حساباتٌ سياسيةٌ ضيقةٌ، ومصالحٌ شخصيةٌ تفوق لديه أي اعتبار للواجب الوطني أو الأخلاقي، إذ كيف لقائد جيش أن يدخر السلاح عن جنوده وهم في قلب المعركة، كيف له أن يُشاهد جنوده يُحاصرون ويُقتلون، ثم يُبقي على المخازن مليئةً، والطائرات جاثمةً في حظائرها؟ إنها ليست قصة شجاعة عسكرية، بل هي قصةُ فشل ذريع وقيادة رديئة، تُفضل أن ترى مدنها تُسقط على أن تُقدم الدعم اللازم. الفاشر: ورقةٌ تفاوضيةٌ أم ثمنٌ بخسٌ للقيادة؟ ولعل الذروة في هذا المشهد المأساوي من التخاذل، هي عندما جعل عبدالفتاح البرهان من مدينة الفاشر وأهلها ورقة تفاوضيةً على مائدة المفاوضات العبثية. أي عقل سياسي وعسكري، أو حتى أي حس إنساني، يقبل بأن تُصبح أرواح الناس، وكرامة المدن، وسقوط المدن، مجرد أحجار على رقعة شطرنج تُحركها أياد مُرتعشة ومُرتشية؟ أن تُعامل الفاشر، بتاريخها ورمزيتها، كسلعة تُساوم عليها في سوق السياسة القذرة، لهو فعلٌ يتجاوز حدود الخيانة إلى عتبة الانحطاط الأخلاقي. لقد كانت الفاشر رهينةً لمفاوضات لم تُفضِ إلا إلى المزيد من الدمار، ومزيد من التخاذل، وكان البرهان يُراهن على الوقت، يُراهن على نفاد صبر العدو، وربما كان يُراهن على أن صمود أهل الفاشر سيبقى إلى ما لا نهاية، لكن رهاناته كانت خاسرة، وثمنها كان غاليا جدا: مدينة سقطت، وأرواحٌ أُزهقت، وشعبٌ فقد ثقته في قيادته. كان ينظر إلى الفاشر من برج عاجي، لا يسمع صراخها، ولا يرى جراحها، بل يراها مجرد رقم في معادلاته السياسية المُعقدة، مُتناسيا أن خلف هذا الرقم أرواحا بشرية، ووطنا يُحتضر. إن هذا السلوك لا يُوصف إلا بالانتهازية السياسية المُقرفة، حيث يُضحى بالشعب والوطن من أجل مكاسب شخصية أو توازنات خفية لا تُدركها سوى العقول المريضة التي تُدير هذا الصراع. لقد كان البرهان يُمسك بمصير الفاشر في يديه، وكانت لديه كل الأدوات اللازمة لإنقاذها، من الطائرات إلى الدعم اللوجستي، لكنه اختار، بوعي وإدراك، أن يُتركها لمصيرها المظلم، لكي يستخدمها كحجة أو كفزاعة في مفاوضات جانبية، أو ليُبرر بها فشله في ساحات أخرى. سقطت الفاشر، ولم يكن ذلك مجرد سقوط لمدينة، بل هو سقوطٌ لقيم عسكرية ووطنية كانت تُعتبر أساسا للكيان السوداني. إن ما حدث يوم السادس والعشرين من أكتوبر 2025، لن يُنسى في ذاكرة الشعب الدارفوري، سيظل وصمةَ عار تُلاحق كل من تخاذل وتآمر على هذه المدينة الصامدة، والمسؤولية، كما بدأنا، وكما سنُنهي، تقع أولا وأخيرا على عبدالفتاح البرهان، ليس لأنه القائد الأعلى للجيش فحسب، بل لأنه هو من امتلك القدرة على التدخل، وهو من تلقى النداءات، وهو من اتخذ قرار التجاهل، وهو من استخدم المدينة كورقة رخيصة في لعبة قذرة. الفاشر لم تُهزم عسكريا فحسب، بل تم التخلي عنها، تم بيعها في سوق النخاسة السياسية، بقرار واع ومُتعمد من رأس القيادة. إن نتائج هذه الكارثة ستكون وخيمةً على مستقبل السودان كله، سيزداد الشرخ بين القيادة والشعب، وستُهدم الثقة المُتبقية، وسيتفاقم الوضع الإنساني بشكل لا يوصف، والأهم من كل ذلك، أن سقوط الفاشر سيُسجل في تاريخ السودان كأحد أحلك الأيام، وكإحدى أسوأ الخيانات التي ارتكبت في حق هذا الوطن، ولن تُغفر للبرهان أفعاله، ولن تُنسى له ذنوبه، وستبقى لعنة الفاشر تلاحقه، وتُلاحق كل من شاركه في هذا الصمت المُريب، وهذا التجاهل القاتل. لم يُسقط الدعم السريع مدينة الفاشر وحده، بل أسقطها أولا تجاهل القائد الأعلى للجيش، وفشله في اتخاذ قرار الإنقاذ، وتركه للفرقة السادسة مشاة بلا إمكانيات حقيقية للصمود. مدينة الفاشر، مثال للبطولة والتضحية، تحولت اليوم إلى شاهد على خيانات السياسة السودانية وتقهقر الجيش السوداني تحت قيادة الفريق عبدالفتاح البرهان. لن تنفعه خطب المزايدات ولا بطولات الإعلام، فقصة الفاشر أكبر من أن تُختصر في اللحظة، ولن تنفع دموع التماسيح حين يحاول أن يتبرأ من المسؤولية. قد يحاول أنصار البرهان أن يسوقوا المبررات المعتادة: الظروف الدولية، التدخلات الخارجية، المؤامرات، لكن كل ذلك لا يصمد أمام أبسط الحقائق، وهي أن المدينة ظلت تستنجد لأكثر من سنتين، لم تتلقّ الذخيرة، ولا الإمدادات، ولا الدعم الجوي، ولا حتى محاولة حقيقية لفك الحصار، هي جريمة الإغفال والتخاذل والجبن السياسي، ومهما كُتب من تبريرات، سيظل البرهان وحده مسؤولًا أمام شعبه، وأمام التاريخ. في نهاية الرواية، مسؤولية سقوط الفاشر يتحملها عبد الفتاح البرهان، أولا وأخيرا، وسيظل السودانيون يكتبون اسمه على جدران مدينتهم جريمةً لا تُغتَفَر. إنها ليست نهاية المطاف، ولكنها بدايةٌ لفصل جديد من الألم، ولن تقوم للسودان قائمةٌ حقيقيةٌ إلا عندما يُحاسب كل متخاذل ومتآمر، وكل من باع وطنه وشعبه بأبخس الأثمان. الفاشر ستبقى في ذاكرتنا، ووصمةُ البرهان ستبقى في جبينه، إلى أن يأتي يومٌ يُقتص فيه للشهداء، وتُعاد فيه الكرامة لهذا الوطن الجريح.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة