في مشهد يعيد إلى الأذهان مآسي مدينة الجنينة وما شهدته من إبادة بشعة بحق مكوّن المساليت، تتكرر المأساة اليوم في مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، حيث يواجه أهلنا الزغاوة حملة إبادة جماعية جديدة على أيدي نفس القتلة الذين سفكوا الدماء في الغرب. التاريخ يعيد نفسه بوحشية، والعالم ما زال يكتفي بالمشاهدة والتنديد الخجول، وكأن دماء الأبرياء في السودان أقل قيمة من غيرها.
قبل شهور قليلة فقط، اهتزّت ضمائر الأحرار في كل مكان عندما وصلت أنباء المجازر المروّعة في الجنينة، حيث قُتل الآلاف من المدنيين العزّل، وجرى التمثيل بجثة الوالي خميس كدج في مشهد تقشعر له الأبدان. لكن يبدو أن تلك الفظائع لم تكن كافية لتحرّك ضمير العالم، إذ لم يُحاسَب أحد، ولم يُقدَّم القتلة إلى العدالة، لتُفتح بذلك الأبواب أمام جريمة جديدة أشدّ قسوة.
اليوم، يعيش سكان الفاشر نفس السيناريو الدموي: قصف عشوائي، نهب، قتل على الهوية، وحرق للمنازل والأسواق، في ظلّ حصار خانق وانقطاع للاتصالات والمساعدات الإنسانية. تتساقط الضحايا بالعشرات يوميًا، ومعظمهم من النساء والأطفال وكبار السن الذين لم يجدوا ملجأً ولا مفرًّا من جحيم الرصاص والنار.
ما يجري في الفاشر ليس مجرد معركة عسكرية، بل هو فصل آخر من سياسة الأرض المحروقة والإبادة العرقية التي تُمارَس بانتظام منذ اندلاع الحرب في السودان. واللافت أن الجناة هم أنفسهم الذين ارتكبوا الجرائم في دارفور الكبرى سابقًا، ما يؤكد وجود منهج متعمد لتطهير مناطق بأكملها من سكانها الأصليين.
ومع كل هذا، يظلّ المجتمع الدولي في حالة صمتٍ معيب. لا بيانات قوية، لا تدخلات حقيقية، لا عقوبات رادعة. المنظمات الإنسانية تصرخ طلبًا للوصول إلى المدنيين، لكن لا أحد يستجيب. مجلس الأمن يكتفي بالقلق، والاتحاد الإفريقي يغرق في بياناته الباردة، بينما تُسفك الدماء وتُباد الأسر وتُمحى مدن من الوجود.
إنّ ما يحدث في الفاشر اليوم هو وصمة عار على جبين الإنسانية. فحين تُقتل الشعوب وتُباد القبائل أمام الكاميرات والعالم يتفرج، فإنّنا نكون قد فقدنا آخر ما تبقى من ضمير إنساني. لا يمكن أن تبقى العدالة مؤجلة إلى ما لا نهاية، ولا يجوز أن يُكافأ القتلة بالصمت الدولي.
إنّ دماء المساليت في الجنينة ودماء الزغاوة في الفاشر تصرخ اليوم مطالبة بالإنصاف، بالعدالة، بالمحاسبة. فالتاريخ لن يرحم، ولن تُمحى هذه الجرائم من ذاكرة الشعوب.
لقد آن الأوان لأن ينهض العالم من سباته، وأن يُنهي ازدواجية المعايير التي جعلت الضحايا في السودان يُقتلون مرتين: مرة برصاص القتلة، ومرة بصمت العالم.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة