في زمنٍ صار فيه المايكروفون أداة حكم، ظهر صنفٌ جديد من الناس يُعرفون في الأزقة الرقمية بـ"عباقرة الكلوب هاوس". إنهم أولئك الذين يدخلون الغرفة فلا يقولون "السلام عليكم"، بل يقولون --"أولًا، خليني أوضح نقطة فلسفية..." وبعدها يبدأ موسم الوعظ. منصة النقاش... أم محكمة التفوق؟ هؤلاء القوم لا يتحاورون، بل يُحاضرون. يتحدثون كما يتحدث الطبيب لمريضٍ مراهق، أو كما يخاطب الفيلسوف جمهورًا من "العامة". يستخدمون كلماتٍ ثقيلة الوزن، مثل "البنيوية"، "الهرمنيوطيقا"، و"تفكيك الخطاب"، ليقنعوك أنهم خرجوا للتو من ندوة مع ميشيل فوكو نفسه!
لكن لو حذفت المصطلحات من كلامهم، فلن يبقى سوى صوتٍ يتضخّم لملء فراغٍ داخلي.
ظاهرة "الفهم المفرط بالذات"
كلما تحدث أحدهم، تشعر أن الكون توقّف ليستمع. هو لا يخطئ — لأن الخطأ عنده مؤامرة على عبقريته. وإن خالفته، اتهمك بالسطحية، وإن سألتَه، ردّ عليك بتنهيدة ثقيلة من نوع:
"واضح إنك ما قرأت كفاية في هذا الموضوع..."
يا عزيزي، لم نكن نبحث عن شهادة، أردنا فقط نقاشًا بلا استعلاء!
تمثيل الكمال المعرفي
في الحقيقة، أغلب هؤلاء ليسوا مثقفين كما يبدون، بل ممثلين بارعين في دور المثقف. يعرف كيف يغيّر نبرته عند الاقتباس، وكيف يضحك ضحكةً محسوبة بعد جملةٍ فلسفية، ليبدو “أعمق” من الجميع. هو لا يقرأ كثيرًا، لكنه يحفظ ما يكفي ليُبهرك، لا ليُفكّر. ولأننا في زمن الصورة، يكفي أن يبدو المثقف مثقفًا، لا أن يكون كذلك.
العلم عندهم سلطة
في عقولهم الصغيرة الكبيرة، المعرفة ليست وسيلة للفهم، بل سلاحٌ للسيطرة. يتحدثون عن التنوير وكأنهم ورثة فولتير، لكنهم لا يحتملون فكرة أن أحدًا يخالفهم. يختبئون خلف المصطلحات كما يختبئ الجندي خلف درعه، يخشون أن يظهروا بشريين، لأن البشر يخطئون... وهم فوق ذلك طبعًا!
الحكمة التي لم تخرج من الغرفة
وحين تنتهي الغرفة، يعود "الأستاذ" إلى حياته العادية: يتناقش مع البائع على سعر القهوة، يصرخ في السائق، ويكتب منشورًا عن "الوعي الجمعي". كل شيء عنده مشروع تنظير، حتى لو كان عن طريقة تقشير الموز فلسفيًا.
كلمة أخيرة يا من نصّبت نفسك فقيه الفهم وشيخ المنابر الفكرية: تكلّم كما تشاء، ولكن تذكّر — أن الصوت العالي لا يعني وضوح الفكرة، وأن كثرة المصطلحات لا تصنع عمقًا، وأن من يتحدث عن التواضع كثيرًا، غالبًا يبحث عن طريقةٍ أنيقة ليمدح نفسه.
فكّر، ناقش، اختلف، لكن لا تتوهّم أنك سقراط في غرفةٍ مساحتها 10 ميغابايت.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة