في قلب المأساة السودانية، تتبلور الأزمات بملامح أكثر تعقيدا حين يختلط العسكري بالسياسي، ويتغلب الطموح الشخصي والاستقطاب الدولي على إرادة الشعب وتطلعاته للسلام والأمان. ثلاثة أعوام أو تزيد منذ اندلاع الحرب في السودان، وما تزال البلاد ترزح تحت وطأة الجراح والألم، والوضع يزداد قتامة بينما يُحكم الخناق على المواطنين الأبرياء في المناطق المنكوبة والمحاصرة. لم تكن الأزمة مجرد صراع على السلطة أو امتدادا لهيمنة مجموعات مسلحة بعينها، بل هي تجلي لانعدام الرؤية السياسية الخلاقة وغياب الضمير الوطني لدى من تولوا زمام الأمور والغبرة. عزيزي القارئ.. في جوهر الأزمة السودانية الراهنة، يكمن تداخل خطير وغير مسبوق بين الدور العسكري المحض والغاية السياسية البحتة، وتجلى ذلك بوضوح في قيادة المشهد السوداني، فعندما يتولى القائد العسكري دفة القيادة السياسية دون فصل واضح وصارم بين الصلاحيات والمسؤوليات، فإن الاستراتيجيات العسكرية لا تعود تستهدف تحقيق النصر الحاسم أو حماية المدنيين كهدف أسمى، بل تتحول إلى أوراق تفاوض، أو أدوات ضغط، أو حتى مجرد إشارات لإرضاء أطراف خارجية وداخلية. هذا الخلط الفادح في الأدوار هو ما شلّ حركة الجيش، وأفقده بوصلته، وجعله يدور في حلقة مفرغة، ضحيتها، هي مواطنو تلك المناطق المحاصرة من قبل ميليشيا الدعم السريع. لقد شهدت الأشهر الأخيرة، بعد ما يقارب الثلاث سنوات من القتال الضاري، جمودا ملحوظا في العمليات العسكرية على كافة الجبهات، وهو جمودٌ لا يمكن تفسيره بمنطق عسكري بحت، إذ في الوقت الذي تتفاقم فيه الأزمة الإنسانية وتشتد معاناة المدنيين، وتتسع رقعة الانتهاكات، نجد أن القيادة العسكرية، التي يفترض بها حماية البلاد والعباد، قد اختارت التريث، أو بالأحرى التعطيل الاستراتيجي، الذي يخدم أجندة سياسيةً تتجاوز الأهداف العسكرية. إنها معادلةٌ سياسية تغلبت على الفريق عبدالفتاح البرهان، مما أدى إلى توقف العمليات العسكرية التي كان من شأنها فك الحصار عن المدن وتأمين الطرق وتقديم الإغاثة للمحتاجين. الواقع الأليم الذي يعيشه المواطنون في المناطق المحاصرة من قبل ميليشيا الدعم السريع، هو خير شاهد على هذه السياسة الكارثية، فمدنٌ مثل الفاشر، والدلنج، وكادوقلي، وبابنوسة، وغيرها، تعيش تحت حصار خانق، تعاني ويلات الجوع والمرض والقتل العشوائي، دون أن تجد لها نصيرا حقيقيا من القيادة التي يفترض أن تحميها. أصبحت هذه المدن، بؤرا لمأساة إنسانية عميقة، يرى أهلها أنهم قد تُركوا فريسةً لبطش الميليشيات، في مقابل حسابات سياسية معقدة لا يفهمونها ولا يجنون منها سوى الألم والخراب. إن توقف العمليات العسكرية في هذه الجبهات، ليس مجرد قرار تكتيكي، بل هو خيارٌ استراتيجيٌ يشي بأن الأولوية قد تحولت من حماية الأرواح والممتلكات إلى الحفاظ على مكاسب سياسية أو البحث عن شرعية دولية أو إقليمية. هذا التوجه يرسل رسالةً واضحةً ومؤلمةً للمواطنين المحاصرين، أن حياتهم ومعاناتهم باتت ورقةً للمساومة، أو ثمنا يدفع لتحقيق أهداف لا تخدم بالضرورة مصالحهم العليا. كيف يمكن لجيشٍ أن يرى شعبه يموت جوعا وقصفا، ويبقى متفرجا، أو على الأقل، غير فعّال بالقدر المطلوب؟ طموح البرهان الرئاسي وإرضاء المحاور الخارجية.. المشهد يكشف عن دافعٍ رئيسي وراء هذا الجمود والتأخير، وهو، طموح شخصي لا يرى حدودا، فالقيادة العسكرية الحالية، ممثلة في البرهان، تسعى جاهدة لتثبيت أركان حكم سياسي، وأن يكون رئيسا للسودان، حتى لو كان الثمن هو جثث مواطني المناطق المحاصرة الذين يقتلون على يد الميليشيات. هذا الطموح يبدو أنه يغذي قرار عدم الحسم العسكري، خوفا من أن يؤدي النصر العسكري إلى تقويض فرصه في الحصول على الشرعية السياسية التي يبتغيها، سواء من الداخل أو الخارج. لعبت القوى الدولية والإقليمية دورا مفصليا في تعقيد الأزمة السودانية وعرقلتها، فما بين رغبة واشنطن ولندن والاتحاد الأوروبي في التوصل لتسوية سياسية تراعي استقرار السودان، وبين حسابات الرياض وأبوظبي والقاهرة في الحفاظ على توازنات النفوذ، بات البرهان يراهن على أن السياسي هو القائد، وأن القرار العسكري مرهون بمخرجات الحوار، وليس بسلامة المواطن السوداني. بهذا، يتعمق الجرح السوداني أكثر، حيث يتحول قادة الجيش إلى مجرد وسطاء في ترسيم حدود المحاصصة، ويفقد الشعب القدرة على دفع الأطراف المسلحة لإنهاء المأساة. في واقع الأمر، أثبتت ثلاث سنوات من الحرب أن التعويل على المجتمع الدولي والإقليمي بغير مشروع وطني جامع هو رهان خاسر، بل إن هذه القوى تحرص على إبقاء الوضع السوداني في حالة برج بابل، حيث لا منتصر، ولا منفذ، إلا باستمرار الأزمة لمزيد من الاستفادة من كل الأطراف. إن هذه السياسات، في جوهرها، لا يمكن وصفها إلا بالخيانة العظمى، فأن يتخلى قائدٌ عسكريٌ عن واجبه الأساسي في حماية شعبه، وأن يُفضل الطموح السياسي الشخصي أو الرغبة في إرضاء أطراف خارجية على دماء أبناء وطنه، هو خيانةٌ لميثاق الشرف العسكري، وخيانةٌ للوطن، وخيانةٌ للإنسانية. عندما يُسكت صوت البندقية عمدا، لا لتحقيق سلام حقيقي، بل لخدمة مصالح ضيقة، وعندما يُترك المدنيون في مهب الريح، تحت وطأة الميليشيات، فإن المبادئ الأساسية للدولة والمجتمع تنهار. الخيانة العظمى ليست مجرد اتهام عاطفي، بل هي وصفٌ دقيقٌ لفعل سياسي وعسكري يضعف الدولة، ويقسم المجتمع، ويقوّض الثقة بين الحاكم والمحكوم، إذ ما قيمة الشرعية الدولية أو الإقليمية إذا كانت مبنيةً على أنقاض المدن وجثث الأبرياء، وما قيمة المنصب السياسي إذا كان طريقه معبدا بدماء الشعب؟ هذه الأسئلة تظل معلقةً، شاهدا على سياسة مريرة، أودت بالسودان إلى حافة الهاوية. نتيجةً لهذا الخلط بين العسكري والسياسي، ولهذا الجمود في العمليات العسكرية، فإن الحرب في السودان لم ولن تتوقف في المستقبل المنظور، طالما بقيت الأهداف السياسية الشخصية تتداخل مع الأهداف العسكرية الوطنية، ولطالما ظلت مصالح المحاور الخارجية والداخلية تضغط على قرارات القيادة، فإن شبح الصراع سيبقى يطارد السودان، وهذا يعني استمرار النزوح واللجوء، وتفاقم الأزمة الإنسانية، وتدمير مزيد من البنية التحتية، وتآكل النسيج الاجتماعي المتبقي، وربما الانزلاق نحو سيناريوهات أكثر قتامة، كتقسيم البلاد أو تحولها إلى دولة فاشلة بالكامل. إن الحل لا يكمن في مجرد التوقف عن القتال، بل في فصل جذري وواضح بين الأجندة العسكرية والأجندة السياسية، ويجب أن تعود القوات المسلحة إلى دورها الدستوري في حماية الوطن والمواطنين، وأن تترك السياسة للمدنيين. يجب أن تكون القرارات العسكرية نابعة من تقييم استراتيجي خالص يهدف إلى حسم المعارك وتأمين المناطق وحماية الأرواح، لا إلى تحقيق مكاسب شخصية أو إرضاء أطراف خارجية أو داخلية لها أجندة سياسية. لقد أثبتت التجربة السودانية المريرة أن الدمج بين العسكري والسياسي هو وصفة أكيدة لاستدامة الصراع وتعميق الجراح، وما لم تتغير هذه المعادلة، وما لم تكن حماية الشعب هي الأولوية القصوى والوحيدة للقيادة، فإن السودان سيظل غارقا في دوامة من العنف واليأس، وستبقى صرخات المدن المحاصرة تتردد كنشيد محزن لفشل قيادي ذريع. في الختام، تتجلى حقيقة مرة ومؤلمة بأن السودان، وهو يئن تحت وطأة حرب يبدو أنها بلا أفق قريب، ليس ضحيةً لعنف أعمى فحسب، بل هو رهينٌ لفخ سياسي نُصِبَ بإحكام حول القيادة العسكرية. إن هذا التداخل الكارثي بين بوصلة السلاح وبوصلة الطموح الشخصي والولاءات الخارجية، قد جرّ البلاد إلى هوة سحيقة، حيث باتت دماء الأبرياء ومعاناة المدن المحاصرة مجرد أوراق على طاولة المساومات. ما يحدث الآن، لا يمكن فصله عن وصف الخيانة العظمى، خيانة لميثاق الشرف العسكري، ولثقة شعب يتطلع للنجاة، وللضمير الإنساني بأسره، فمتى ما غابت الحماية، وحضرت المماطلة، وارتفع صوت الأجندة الشخصية على صرخات الجوع والقصف، فإن الشرعية تُهدر، والمستقبل يُرهن. السودان اليوم يقف على مفترق طريق، إما أن يُعاد للجيش دوره الوطني الأصيل في حماية الوطن والمواطنين بعيدا عن دهاليز السياسة، أو أن يبقى غارقا في وحل صنعته أياد كان يفترض بها أن تبني، لا أن تهدم، فمتى يدرك القادة أن لا نصر حقيقي يُبنى على أشلاء الأبرياء، وأن بوصلة الوطن لا تشير إلا نحو شعب آمن ومستقبل مستقر؟ هذا هو السؤال الذي يظل صداه يرنّ في أرجاء السودان الجريح، وينتظر إجابةً لن تأتي إلا من ضمائر حية، وقرارات وطنية خالصة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة