في السادس والعشرين من أكتوبر عام 2023، سقطت نيالا تحت وطأة الصراعات المسلحة، لتتحول إلى عنوان جديد في سجل المدن المنكوبة. وبعد عامين بالتمام، وفي اليوم ذاته من عام 2025، أعادت الفاشر المشهد نفسه: اشتباكات، نزوح، دمار، وارتباك في السرديات الرسمية بين من يقول “انسحاب تكتيكي” ومن يؤكد “سقوطًا كاملاً”. بين التاريخين لا شيء تغيّر سوى أسماء المدن والضحايا. السودان يعيش في حلقة مغلقة من العنف، تتكرر فيها الوقائع نفسها بوتيرة مأساوية، وكأنها قدر لا فكاك منه. لكن هذا ليس قدراً سماوياً، بل نتاج منظومة تدمير ذاتي تراكمت عبر عقود من الفشل السياسي والمؤسسي، وأنتجت دولة ضعيفة البنية، هشّة المؤسسات، وممزقة الولاءات. جذور الأزمة: دولة بلا مؤسسات الأزمة السودانية ليست مجرد نتيجة لحرب طارئة، بل انعكاس لغياب مشروع وطني جامع. منذ الاستقلال، فشلت النخب الحاكمة في بناء مؤسسات دولة محايدة تستند إلى مبدأ المواطنة، فاستُعيض عنها بمنظومة قائمة على الولاءات القبلية والعسكرية. تحوّل السلاح إلى لغة السياسة، وأصبح الانتماء للقبيلة أو الجماعة أقوى من الانتماء للوطن.
هذا الواقع أنتج جيشاً متعدداً في الولاءات، وأجهزة أمنية متداخلة المصالح، واقتصاد حرب يقوم على النهب والابتزاز والإتاوات. لم تعد الحرب عبئاً، بل مصدراً للثروة والنفوذ، ما جعل السلام تهديداً للمستفيدين من استمرار الفوضى.
يزيد الطين بلة أن الخطاب الإعلامي والسياسي في السودان غالباً ما يساهم في طمس الحقيقة. تُستخدم مصطلحات من قبيل “انسحاب تكتيكي” أو “إعادة تموضع” لتجميل الهزائم أو التغطية على الانتهاكات. وهكذا تتكرّر الأكاذيب، ويتحوّل الرأي العام إلى شريك صامت في إعادة إنتاج المأساة.
الكلفة الإنسانية: مدن تنزف بلا توقف
ما بين نيالا والفاشر، يمتد شريط طويل من المعاناة. المدن تُقصف، القرى تُحرق، والمخيمات تُحاصر. المدنيون يدفعون الثمن الأكبر: آلاف القتلى والجرحى، نزوح جماعي يفاقم أزمات الغذاء والدواء، وأطفال يولدون في خيام اللجوء لا يعرفون معنى الاستقرار.
بحسب تقارير الأمم المتحدة، تتزايد الهجمات على الأحياء السكنية ومراكز الإيواء، في ظل غياب تام للحماية أو المحاسبة. إنها مأساة إنسانية متكررة لا تجد من يوقفها، لأن من يملك السلاح لا يملك الرؤية، ومن يملك القرار لا يملك الإرادة.
كيف نكسر الحلقة؟
كسر دائرة العنف في السودان لا يحتاج إلى شعارات جديدة، بل إلى قرارات شجاعة تبني دولة على أسس مختلفة تمامًا.
إعادة بناء المؤسسة العسكرية والأمنية يجب توحيد القوات تحت قيادة وطنية واحدة تخضع لسلطة مدنية ودستورية، مع تفكيك الولاءات الموازية للقبائل والجماعات.
محاسبة شفافة وعدالة انتقالية لا استقرار دون عدالة. يجب توثيق الجرائم والانتهاكات وتحريك الملفات أمام القضاء الوطني والدولي. إن إنهاء ثقافة الإفلات من العقاب هو الخطوة الأولى نحو السلام الحقيقي.
وقف تمويل الحرب لا يمكن أن تستمر النزاعات دون مال وسلاح. مراقبة تدفقات السلاح وتجفيف مصادر تمويل الميليشيات شرط أساسي لوقف النزيف.
حماية المدنيين والمساعدات الإنسانية فتح ممرات إنسانية آمنة وتسهيل عمل المنظمات الإغاثية ضرورة عاجلة، فالمعركة الحقيقية اليوم هي معركة البقاء.
حوار وطني شامل لا حل دون مصالحة وطنية شاملة تعيد تعريف العلاقة بين المركز والهامش، وتوزع السلطة والثروة بعدالة، وتؤسس لولاء جديد اسمه “المواطنة”.
خيار بين البقاء والانقراض
من نيالا إلى الفاشر، ومن جيل إلى جيل، يتكرر المشهد نفسه وكأننا نشاهد شريطاً قديماً يُعاد بثه بلا نهاية. لكن الفرق أن الدماء جديدة، والألم جديد، والوطن يضعف كل يوم أكثر.
السودان اليوم أمام مفترق طرق: إما أن نكون آخر جيل يعيش هذه المآسي، أو أول جيل يكسر دائرة العنف ويؤسس لدولة تحترم إنسانها وتتعلم من أخطائها.
الوقت لا ينتظر، والخراب يتسع. إن لم يتحرك العقل الجمعي السوداني لكسر هذه الحلقة المفرغة، فإن القادم — كما تشير كل الشواهد — سيكون أسوأ بكثير مما مضى.
الوطن ينزف، والتاريخ يكتب فصوله الأخيرة. فهل نملك الشجاعة لنغيّر السطر القادم؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة