لماذا يُنكر السودانيون أصولهم الكوشيّة -النوبيّة ؛ النيليّة ؛ البانتو؟ د. احمد التيجاني سيد احمد مقدمة مشكلة السودانيين هي نوعٌ من الاستبداد الغبي، القائم على قناعةٍ زائفة بأنهم أفضل حالًا من أصولهم الحقيقية. حتى حين لجأت أجهزة أمن الكيزان إلى ما سُمّي بمشروع "وحدة أمن القبائل"، لم يكن الهدف توحيدًا اجتماعيًا، بل وسيلةً لترسيخ المشروع العروبي المموَّل من قطر، الذي أغدق الأموال لإثبات أن “أرفع قبائل السودان” هم ما يُعرفون بـ الكواشة، أي “العرب الأحرار” الذين جاؤوا إلى السودان ليطهِّروا ترابه من “الرنوج” و“المتخلّقين”! تولّى رئاسة هذه الوحدة أحد أبرز ضباط النظام، الكوز غيد الله شم، الذي كُلِّف بتطبيق سياسة تسييس الانتماء القبلي وربط مشايخ العشائر بتمويلات ومصالح مقابل الولاء للمركز.
الهوية الكوشيّة - النوبيّة؛ النيليّة؛ البانتو أغلبُ المثقفين السودانيين يتحاشون الاعتراف بجذورهم الكوشيّة والنوبيّة والنيليّة والبانتو، ويتحدثون عن لونٍ “أخضر” لا يمتّ للسواد بصلة. لا تكادُ تجد في كتاباتهم لمسةً تُعيد الاعتبار للتراث الإفريقي الأصيل، كالذي يراه الزائر في مملكة بنين و لا روساء ممالك نيجيريا و الكاميرون أو كباكا يوغندا. ولا تراهم عارفين — أو حتى شاعرين بالفخر — بإنجازات أسلافهم مثل غزو تهارقا لفلسطين وتحريره لليهود. نادرًا ما يتوقّف أحدٌ عند كيف انتهت “دولة سالي فو حَمَر” حين دمّرت المفاهيم الجديدة الموروثَ الاجتماعي والأخلاقي للدولة، فمحَتها من الوجود. وكيف تكرّر النمط ذاته في وعينا الجمعي، إلى أن انتهى بنا الأمر إلى نخبةٍ من المثقفين المبهورين بالسلطة، الخانعين لأحكامٍ عسكريةٍ قادتها جُهّالٌ انشغلوا بتنفيذ أفكارٍ شموليةٍ قاسيةٍ لا شأن لأهل السودان بها.
عقدة اللون: من السواد الجميل إلى الأخدر الخاتف لونين تحوّل السواد، الذي كان رمزًا للخصب والنيل والدفء الإنساني، إلى نقيضٍ يُراد نسيانه أو تلميعه. صار المقياس الشعبي للجمال هو “اللّون الأخدر الفاتح الخاتف لونين”، وكأنَّ اللون المسموح به في مجتمعٍ يخاف أن يرى نفسه كما هي. لم يكن هذا بريئًا؛ بل هو نتاج مباشر لعقودٍ من الهيمنة الثقافية التي جعلت الجمال مرادفًا للبياض، والصفاء مرادفًا للعروبة، والسواد تذكيرًا غير مرغوبٍ فيه بأصلٍ إفريقيٍّ يُراد دفنه.
اللون والطبقة: حين صار التدرّج اللوني سلّمًا للسلطة منذ الاستقلال، تسلّل التفاضل اللوني والعرقي إلى مؤسسات الدولة، حيث تُفتح الأبواب لمن يشبه “النخبة المركزية” لونًا ولهجةً، وتُغلق في وجه من يحمل لون الأرض وسواد النيل. ومع عهد الكيزان، تحوّل اللون إلى أداة سلطة ( عروبيه اسلاموية) كاملة. غير أن هذا البناء الهشّ انهار بتراكم الثورات المغتصبة في ١٩٦٤ و١٩٨٥ و٢٠١٨، حين انفجرت التناقضات بين المركز والهامش وبين لون السلطة ولون الشعب. فجاءت ثورة التأسيس لا لتعيد التاريخ بل لتصوّب مساره.
عودة الوعي الكوشي: من الإنكار إلى التأسيس ثورةٌ تُعلن أن السودان لا يُبنى على دمٍ نازحٍ، بل على الوعي العربي–الأفريقي–النيلي–الكوشي–النوبي الجامع، الذي يرى في التنوّع طريقَ الخلاص، وفي الاختلافِ وعدًا بالاكتمال لا سببًا للانقسام. إنها لحظة الوعي التي يُستعاد فيها الوطن من ركام الزيف، ليُبنى من جديد على الحقيقة: أن السودان لا يُختصر في دمٍ، ولا يُقاس بلون، بل يُولد في كل مرّة من وعيِ شعبه وإيمانه بأنّ النيل لا يُفرِّق بين ضفّتَيه كما لا تُفرِّق كوش بين أبنائها.
د. أحمد التيجاني سيد أحمد قيادي مؤسس في تحالف تأسيس ٢٥ اكتوبر ٢٠٢٥ روما، إيطاليا.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة