التفاوض في واشنطن... ما بين النفي الرسمي والتأكيد الأمريكيفي ظل استمرار النزاع المسلح بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ أكثر من عامين، والذي أودى بحياة عشرات الآلاف وأدى إلى نزوح ملايين السودانيين أثارت تسريبات إعلامية حديثة جدبًا دوليًا حول جولات تفاهمات غير معلنة تجري في العاصمة الأمريكية واشنطن. وفقًا لتقارير من مصادر دبلوماسية وإعلامية موثوقة، تشمل هذه المحادثات ممثلين عن الجانبين العسكريين، بوساطة مباشرة من الرباعية الدولية (الولايات المتحدة، بريطانيا، السعودية، والإمارات). وأشارت مصادر في وزارة الخارجية الأمريكية إلى أن الاجتماعات غير المباشرة، التي بدأت الأسبوع الماضي ومستمرة حتى اليوم (23-24 أكتوبر 2025) تهدف إلى اتفاق هدنة إنسانية لمدة ثلاثة أشهر، يشمل فتح ممرات إنسانية دون قيود، مع التركيز على إيصال المساعدات إلى المناطق المتضررة مثل الفاشر وخاشم الجزيرة.رغم التكتم الشديد الذي يفرضه الوسطاء الأمريكيون تسرب الخبر إلى وسائل الإعلام، مما دفع مجلس السيادة السوداني إلى إصدار بيان نفي رسمي فوري في 23 أكتوبر، ينفي أي مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة مع "المليشيا المتمردة". ومع ذلك، أكدت مصادر أمريكية وإقليمية وجود وفود عسكرية رفيعة المستوى من الجانبين في واشنطن، بقيادة ضباط استخبارات عسكرية، وأن الاجتماعات جزء من "مرحلة تحضيرية عالية المستوى" لمفاوضات سلام شاملة تشمل الإمارات والسعودية كشركاء في الرباعية.النفي الرسمي السوداني: الخوف من التمرد داخل المؤسسة العسكريةأصدر مجلس السيادة بيانًا رسميًا في 23 أكتوبر 2025، يؤكد أن "التقارير المنتشرة حول مفاوضات في واشنطن غير صحيحة تمامًا" وأن موقف الدولة "ثابت وواضح" بالتمسك بالحل الوطني الذي يحفظ سيادة السودان ووحدته واستقراره. ووصف البيان قوات الدعم السريع بـ"الثوار"، محذرًا من أي تسوية تمنحها شرعية سياسية.وراء هذا النفي القاطع أسباب أعمق، ترتبط بتوازنات داخلية هشة:الخشية من تمرد التيارات الإسلامية داخل الجيش: التيارات المرتبطة بالمؤتمر الوطني السابق التي ترى في أي تفاوض مع الدعم السريع خيانة لدماء الجنود، خاصة بعد اتهامات الإبادة الجماعية للدعم السريع في دارفور، كما أكدت الولايات المتحدة في يناير 2025. مصادر عسكرية سودانية تشير إلى أن رفض البرهان للمفاوضات المباشرة يأتي لتهدئة هذه التيارات، التي تهدد بالانشقاق إذا شعرت بـ"الرضوخ". الخوف من اهتزاز الروح المعنوية للقوات: بعد استعادة الجيش للخرطوم في مارس 2025، أصبحت المعنويات مرتفعة، لكن أي إشارة إلى هدنة قد تفسر كضعف، خاصة مع استمرار هجمات الدعم السريع بطائرات بدون طيار على مطار الخرطوم في الأيام الثلاثة الماضية (21-23 أكتوبر)، مما أسفر عن خسائر مدنية. تجنب ظهور القيادة بمظهر الضعف: الضغوط الدولية، بما فيها عقوبات أمريكية محتملة على دعاة الحرب، تجعل النفي ضروريًا للحفاظ على صورة السيادة، رغم وجود وفد حكومي فعلي في واشنطن، مما يعكس ازدواجية الخطاب سري في الدبلوماسية، صلب علنًا.
كان النفي التزامنيًا مع تصريحات البرهان في بورتسودان، حيث رحب بـ"أي مفاوضات تحمي كرامة السودان"، لكنه شدد على "إنهاء التمرد" كشرط أساسي.الموقف الأمريكي: "إيقاف الحرب بأي ثمن"أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية، عبر مصادر رسمية أن واشنطن تستضيف "محادثات غير مباشرة عسكرية-عسكرية" لوقف إطلاق النار الإنساني، يعقبها تفاوض سياسي شامل. وأكد مسؤول أمريكي أن الاجتماعات تشمل نائب وزير الخارجية ووسطاء إقليميين، مع استبعاد السفير السوداني في واشنطن عمر الصادق، للحفاظ على الطابع العسكري.لكن هذه الرؤية ليست بريئة، كما يراها مراقبون سودانيون ومحللون دوليون. تسعى إدارة الرئيس ترامب إلى إبقاء الدعم السريع فاعلاً سياسيًا، كحاجز أمام عودة التيارات الإسلامية إلى السلطة، خاصة بعد اتهام الإمارات بدعم الدعم السريع عسكريًا، كما ورد في تقارير أمنستي الدولية في نوفمبر 2024. كما أن الرباعية، بما فيها الإمارات والسعودية، تستخدم نفوذها الاقتصادي لفرض الهدنة، مع التركيز على تفكيك المليشيات وإعادة بناء جيش وطني موحد. ومع ذلك، يثير الدعم الأمريكي لـ"الخريطة الطريق" شكوكًا حول نوايا واشنطن في إعادة تشكيل المشهد السياسي، ربما لصالح حلفاء إقليميين يخشون نفوذ الجيش المصري-مدعوم.البرهان بين مطرقة الضغوط وسندان الشرعيةيواجه الفريق أول عبد الفتاح البرهان معضلة معقدة: أي انخراط بضغط خارجي يُفسر داخليًا كاعتراف بالدعم السريع كطرف شرعي، لا كمليشيا، مما يهدد التماسك العسكري. خارجيًا، يبدو كخضوع للإملاءات، خاصة مع شروط الدعم السريع الصارمة للمشاركة: علمانية الدولة، فيدرالية، تسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، واستمرار العمليات العسكرية أثناء التفاوض.ومع ذلك، لا يمكن للبرهان الرفض المطلق، إذ يُفسر كمعارضة للسلام، لذا يناور بمرونة تكتيكية خارجيًا (كما في اجتماعات القاهرة مع عبد الله حمدوك في أكتوبر 2025) وحزم داخلي. البرهان شخصيًا أشرف على الوفد قبل سفره، وفق مصادر استخباراتية، لضمان عدم تجاوز الخطوط الحمراء.خلاصة المشهدالرباعية الدولية تضغط بقوة لفرض هدنة ملزمة، مستخدمة نفوذها السياسي والاقتصادي، مع تركيز على المراحل التحضيرية لتجنب فشل سابق مثل جدة 2023. الجيش السوداني ينفي رسميًا المشاركة المباشرة، لكنه يشارك في مشاورات غير معلنة، تحت ضغط داخلي من التيارات الإسلامية. الخوف من التمرد الداخلي يفسر تشدد الخطاب، مع مخاوف من انهيار الروح المعنوية بعد خسائر حديثة في الفاشر. الولايات المتحدة تسعى لفرض رؤيتها، مستخدمة الحرب كأداة لإعادة توازن القوى، لكن مع اتهامات للإمارات بدعم الدعم السريع، مما يعقد الوساطة.
الفكرة المركزيةالسودان لا يرفض التفاوض من المبدأ، لكنه يرفض تحويله إلى بوابة تمنح المليشيا شرعية سياسية دون تفكيكها ونزع سلاحها. أي تسوية لا تنتهي بجيش وطني موحد ومحاسبة الانتهاكات ليست سلامًا حقيقيًا، بل هدنة مفروضة تعيد إنتاج الصراع، وسط أزمة إنسانية تُعد الأكبر عالميًا، مع 12.7 مليون نازح وانتشار المجاعة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة