منذ نشأتها، ظلّت الدولة السودانية رهينة أزمات معقدة ومركبة؛ أزمات لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها، لأنها تمسّ صميم حياة وطن يختنق تحت وطأة صراعاته الداخلية وبُناه السياسية المختلة. إن تشابك هذه الأزمات لا يعني بحال من الأحوال الاستسلام لها، بل يستدعي مواجهة جذرية تبدأ من تشخيص الأسباب الحقيقية لانهيار النموذج الوطني، وفشل النخبة السياسية في تقديم مشروع سياسي مستقر ومتماسك.
إن ما يُعرف اليوم بـ”مؤسسة الجيش السوداني”، ومعها الميليشيات المتناسلة والتنظيمات المسلحة المختلفة، ما هي إلا إفرازات مباشرة لتاريخ طويل من التواطؤ والتوظيف السياسي للعسكر، مارسته القوى التقليدية منذ لحظة الاستقلال. ولم يكن الجيش في يوم من الأيام، وفق قراءتي الخاصة، هو المبادر الأول بالاستيلاء على السلطة، بل كان دوماً أداة في يد نخبة مدنية إما عاجزة أو راغبة في الحكم دون شرعية شعبية.
منذ المحاولة الانقلابية التي قادها الرائد عبد الرحمن كبيدة في 31 مايو 1957، بتحريض مباشر من بعض عناصر الضباط الأحرار في مصر، بدعوى تحقيق الوحدة بين البلدين، اتضح بجلاء أن المؤسسة العسكرية لم تتحرك بمعزل عن الحاضنة السياسية. والمفارقة أن جعفر نميري نفسه كان من المشاركين في تلك المحاولة الفاشلة، قبل أن يعود بعد اثني عشر عاماً ليقود انقلاب مايو 1969، بتخطيط وتنسيق مع تيارات أيديولوجية تمثل ما يمكن تسميته – مجازاً – بـ”الرباعية العقائدية”: الشيوعي، البعثي، القومي، والناصري. The Quartet of Ideological Parties
بل إن تسليم السلطة للفريق إبراهيم عبود عام 1958 لم يكن نتاج انقلاب عسكري تقليدي، بل جرى عبر صفقة سياسية واضحة قادها عبد الله خليل، زعيم حزب الأمة آنذاك. وهو ما يعكس واحدة من أخطر أنماط الفشل السياسي السوداني: “العسكرة الطوعية للسلطة” أو ما يمكن تسميته بـMilitarized Political Transitions.
تواصل هذا النمط مع انقلاب “الجبهة الإسلامية القومية” في يونيو 1989، الذي لم يكن سوى عملية “تسليم وتسلم”، كما أكّد لي – شخصيًا – المرحوم إدريس البنا، عضو مجلس السيادة وقتها. ولم يكن ذلك الانقلاب بعيدًا عن دعم وتحريض مدني أيديولوجي، بل تم بإسناد واضح من تيارات الإسلام السياسي التي رأت في العسكر وسيلة لضمان الهيمنة على الدولة.
هذه الحقائق تُفضي بنا إلى نتيجة جوهرية: المشكلة لا تبدأ من الجيش، بل من بنية الحياة الحزبية نفسها. الأحزاب السودانية، سواء التقليدية منها أو الحديثة، أخفقت في بناء مشروع وطني جامع. بدلاً من تقديم برامج سياسية واقعية تستجيب لتعقيدات البنية الاجتماعية السودانية – التي تتقاطع فيها الانتماءات القبلية والعشائرية والصوفية – قامت هذه القوى باستيراد أيديولوجيات حالمة لا تستند إلى واقع البلاد. إنها أزمة Ideological Importation، حيث يتم تبني نماذج خارجية لا تراعي الخصوصيات المحلية ولا التنوع الثقافي والاجتماعي.
ومنذ نشأة “مؤتمر الخريجين” في ثلاثينيات القرن الماضي، الذي كان يفترض أن يكون نواة للنهضة الوطنية الحديثة، سقط المشروع في فخ الصراع على النفوذ، وغابت الرؤية الوطنية الجامعة. وأدى ذلك إلى تناسل مشاريع سلطوية قصيرة الأجل، تغلّب الأيديولوجيا على الواقع، والمصلحة الحزبية على مصلحة الدولة.
أما المؤسسة العسكرية، فهي اليوم ضحية هذا التاريخ من التسييس الممنهج، وتظل مختطفة – سياسيًا ودينيًا – من قبل تيارات الإسلام السياسي التي استغلت الدين لبناء دولة أمنية مغلقة، تحرس مصالحها تحت شعارات زائفة. ولا يمكن لأي إصلاح عسكري أو إعادة هيكلة حقيقية أن تنجح دون إعادة تأسيس الحياة الحزبية على أسس ديمقراطية، برامجية، لا شعاراتية.
لابد من أحزاب تقوم على رؤية واضحة، تضع مصلحة المواطن في قلب اهتماماتها، وتؤمن بالتداول السلمي للسلطة، وتُدرك أن الواقع السوداني المعقّد لا يمكن حكمه بمنطق الإقصاء أو الطهرانية الأيديولوجية.
إن البدء في إصلاح الدولة السودانية يجب أن يكون من رأس الهرم السياسي: بناء مشروع سياسي جديد، عقلاني، واقعي، يعترف بتعدد السودان وتنوعه، ويضع أسسًا حقيقية لديمقراطية توافقية، لا ديمقراطية الغلبة المؤقتة.
غير ذلك، فإن كل محاولة لـ”تغطية النار بالعُويش” – أي التستر على المشكلات الجوهرية بحلول شكلية – لن تقود إلا إلى مزيد من الانهيار. وستظل الدولة في حالة احتضار دائم، يطيل أمده الفشل السياسي، ويعمّقه العجز عن الاعتراف بالمشكلة من جذورها.
ليس من المنطقي أن نحمّل الجيش وحده مسؤولية الانقلابات المتكررة، أو نطالب بإصلاحه بمعزل عن إصلاح البيئة السياسية التي أنتجته. السودان في حاجة إلى Re-Engineering the Political Landscape، لا مجرد إعادة تدوير النخب ذاتها. إن إصلاح الجيش ممكن، ولكن بعد أن تصلح السياسة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة