تتصاعد وتيرة الجدل السياسي والإعلامي بشأن ما يقال عن مفاوضات غير مباشرة بين القيا السودانية ومليشيا الدعم السريع في واشنطن، بين نفي رسمي قاطع من السودان، وإصرار أمريكي على رواية مغايرة توحي بأن المسار التفاوضي قد بدأ فعلا.
فقد نفى مجلس السيادة السوداني وجود أي مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة مع المليشيا المتمردة، مؤكداً أن موقف الدولة ثابت وواضح، وهو الالتزام بالحل الوطني الذي يحفظ سيادة السودان ووحدته واستقراره، ويصون حقوق شعبه. البيان الرئاسي جاء بعد موجة من الأخبار والتسريبات التي تحدثت عن وصول وفدي الجيش ومليشيا الدعم السريع إلى واشنطن تمهيداً لبدء محادثات غير مباشرة.
في المقابل، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية عبر مصادرها أن واشنطن تستضيف مفاوضات وصفتها ب“غير المباشرة” بين الطرفين برعاية نائب وزير الخارجية، وأن اللقاءات تهدف إلى وضع أسس لوقف إطلاق النار لأغراض إنسانية، يعقبها تفاوض سياسي شامل. وتؤكد هذه الرواية رغبة واشنطن في فرض منطقها الخاص حول الأزمة، حتى لو تعارض مع الحقائق على الأرض أو مع ثوابت الدولة السودانية.
يدرك عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة والقائد العام للجيش، تعقيدات هذا المشهد جيداً. فهو جاهدا ألا يبدو في الخارج كرافض للسلام أو متشدد، لكنه في الوقت ذاته لا يستطيع القبول بتفاوض يُكسب المليشيا المتمردة أي مشروعية سياسية أو اعتراف ضمني بواقعها. فالبرهان يقاتل على أكثر من جبهة: الحفاظ على الروح المعنوية لقواته، تأمين الدعم الشعبي والحفاظ عليه، وضمان استمرار مساندة القوى الوطنية والمجتمعية التي ترى في مليشيا الدعم السريع خطراً وجودياً على الدولة.
أما الولايات المتحدة، فهي تمارس ضغوطاً مكثفة تحت شعار “إيقاف الحرب بأي ثمن”، لكنها في الواقع تتحرك بعقل سياسي يربط الأزمة السودانية بفوبيا التيارات الإسلامية. إذ يرى صانع القرار الأمريكي أن بقاء مليشيا الدعم السريع لاعباً سياسياً في المشهد السوداني يعني الحد من نفوذ تلك التيارات، وإعادة إحياء القوى اليسارية والعلمانية المتحالفة مع المليشيا. هذا الفهم الرغائبي لطبيعة الصراع لا يعنيه أن السودان لا يواجه مجرد أزمة سياسية، بل معركة من أجل بقاء الدولة نفسها.
وفي خضم هذا التناقض، تزعم مصادر دبلوماسية بوجود وفد سوداني عسكري حالياً في واشنطن حيث يجري مباحثات مع مسؤولين أمريكيين، لكنها ليست مفاوضات مع المليشيا كما يُشاع، بل جزء من اتصالات سياسية تتعلق بالمسار الوطني الذي بدأ من القاهرة ومرّ بأديس أبابا، وصولاً إلى النرويج. هذا المسار يهدف إلى تحصين الحل السوداني من تدخلات “اللجنة الرباعية”.
إن ما يحتاجه السودان اليوم قبل كل شيء هو وضوح الخطاب السياسي الرسمي. فالمطلوب من القيادة، وعلى رأسها البرهان، أن تحدد موقفها بعبارات لا لبس فيها: السودان لا يرفض مبدأ التفاوض، لكنه يرفض أن يكون التفاوض جسراً لعودة المليشيا إلى المشهد السياسي. فالتسوية التي لا تنتهي بتفكيك “الدعم السريع” وتجريده من السلاح ليست سلاماً، بل استراحة قصيرة تعيد إشعال الحرب بأشكال جديدة.
فالفكرة المركزية: أن الموقف السوداني الرسمي لا يرفض مبدأ التفاوض من حيث المبدأ، لكنه يرفض تحويله إلى منصة تمنح المليشيا المتمردة مشروعية سياسية، وأن أي تفاوض يجب أن يكون لإنهاء وجودها المسلح لا لتقنينه.
ورغم تصاعد المطالب من منظمات المجتمع المدني الأمريكية، ومن أصوات تشريعية في الكونغرس الأمريكي، بتصنيف “الدعم السريع” منظمة إرهابية بسبب ما ارتكبته من جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية، فإن واشنطن الرسمية تجاهلت تلك الدعوات بشكل لافت. هذا التجاهل لا يمكن قراءته إلا في إطار رغبة الإدارة الأمريكية في إبقاء المليشيا داخل المشهد السياسي السوداني، واستخدامها كورقة ضغط لتحقيق توازنات داخلية تخدم رؤيتها الخاصة.
إن هذا الموقف يعمّق الشكوك في نوايا العقل السياسي الأمريكي الرسمي، ويعزز القناعة بأن واشنطن لا تسعى فعلياً لإنهاء الحرب، بل لإدارة الأزمة بما يضمن استمرار نفوذها وتأثيرها في بنية السلطة السودانية المقبلة. فواشنطن التي ترفع شعار “السلام” تتغاضى في الوقت ذاته عن جرائم موثقة ضد المدنيين، الأمر الذي يجعل خطابها الأخلاقي والسياسي فاقداً للمصداقية في نظر الشارع السوداني.
إن السلام الحقيقي لا يقوم على المجاملة أو المساومة على دماء السودانيين، بل على تعزيز مؤسسات الدولة وهيبتها، سواء بالبندقية أو بالحل السياسي الذي يُنهي المليشيا إلى الأبد. وفي هذه المعادلة، لا بد أن يُدرك العالم أن السودان لا يقاتل طواحين هواء، بل يخوض معركة مصيرية ضد الفوضى والوصاية الأجنبية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة