“استعادة الثورة لا تكون بتكرارها، بل بتصحيح مسارها… وكفانا أجيالًا كتبت فأعتمت! صدقوني، نحن في زمنٍ صار فيه بصيص النور هو العتمة نفسها.”
د.احمد التيجاني سيد احمد
١. ذاكرة الطمي والتهجير في وادي حلفا، حيث تتداخل الرمال مع بقايا الماء، تتجسّد الذاكرة النوبية في الطمي الذي أبى أن يجفّ بعد التهجير. حين أُغرقت القرى بالنيل الصناعي الذي صنعه السد العالي، ظنّ النظامان المصري والسوداني أنهما أطبقا على آخر أنفاس النوبة، لكن الطمي ظلّ يتراكم عامًا بعد عام ليصنع أرضًا جديدة سُمّيت لاحقًا أراضي الأطماء — الأرض التي ستصبح لاحقًا عنوانًا للمقاومة.
٢. من العودة الطوعية إلى معركة البقاء حين قرّر أبناء عبكة وجمي العودة إلى الضفة الغارقة، لم يعودوا بقرار حكومي، بل بإرادة الذاكرة. أعادوا تأسيس جمعياتهم التعاونية، واستصلحوا الأرض بوسائل بسيطة، ليثبتوا أن النوبة لا تُزرع بالسياسات، بل بالانتماء. لكن بعد أن أثمرت الأرض وامتلأت الحقول بالقمح والبلح، امتدت يد التمكين من الخرطوم لتسطو على الحلم. جاء الصادق عمارة، وزير الدولة بالزراعة في عهد الإنقاذ، ليحوّل الأرض إلى مشروع باسم شركته قرين (Green). وهكذا بدأ فصل جديد من فصول الصراع بين السلطة والذاكرة، بين الكيزان والنوبيين.
٣. بيت سعاد إبراهيم أحمد: لحظة الوعي الجماعي في ذلك المساء بالخرطوم، في بيت المناضلة سعاد إبراهيم أحمد، اجتمعنا — نفر من أبناء النوبة والعودة الطوعية — وكان بيننا المرحوم عزت فرحات وعدد من قيادات الجمعيات. كانت سعاد، في قمة عنفوانها، تختصر القضية كلها في جملة واحدة: "الأرض دي ما للكيزان، دي للناس الزارعوها بالدمع والعرق." ذلك الاجتماع لم يكن مجرد لقاء تضامني، بل كان لحظة تأسيس لوعي المقاومة النوبية الحديثة، التي جمعت بين السلمية والإصرار، بين إحراق التعدي حين لزم الدفاع، واللجوء للقضاء حين حان وقت الحسم.
٤. المقاومة بالنار وبالقانون لم يكن الدفاع عن أراضي الأطماء نضالًا رمزيًا، بل فعلاً واقعيًا مشهودًا. حين حاولت آليات الوزير التعدي على الأرض، أوقفها الأهالي بالنار والإرادة. وحين لجأت السلطة إلى المحاكم، واصلت الجمعيات طريقها القانوني إحدى عشرة سنة من التقاضي حتى صدر الحكم النهائي من المحكمة العليا في أكتوبر ٢٠٢٥، بإلغاء قرارات النزع وإعادة الأراضي لأصحابها. لقد انتصر النوبيون مرتين: مرّة حين حَمَوا الأرض بأيديهم، ومرّة حين أعادها لهم القانون.
٥. دلالة النصر: الطمي الذي لا يُهزم ما حدث في وادي حلفا ليس مجرد حكم قضائي، بل درس وطني في معنى المقاومة المدنية. لقد أثبت النوبيون أن الأرض ليست ملكًا للوزراء، ولا حكراً للسلطة، تباع بدون ثمن للمستعر المصري ؛ بل هي هوية وصبر وحقٌّ تاريخي.
في زمنٍ حاول فيه الكيزان تحويل الوطن إلى مِلكية خاصة، خرج الطمي ليقول كلمته: “الأرض لا تعرف غير من يزرعها.”
٦. نحو تأسيس العدالة الجديدة إن ما تحقق في الأطماء هو نموذج عملي لمشروع التأسيس السوداني الذي ننادي به اليوم. فهو يؤكد أن استعادة الدولة تبدأ من استعادة الأرض، وأن مقاومة التمكين لا تكون بالشعارات، بل بإحياء العدالة في الوعي الجمعي. لقد انتصرت النوبة، لا بالسلاح، بل بذاكرةٍ لا تموت، وقانونٍ لا يُشترى.
تحية ووفاء إلى أرواح المناضلة الأستاذة سعاد إبراهيم أحمد، والمناضلين محمد (طهرة) شلك، وعزت فرحات، وإلى كل من قاوم الاستعمار المصري وخنوع الحركة الإسلامية وبيعها أراضي السودان من أجل بقائها، وإلى القابضين على جمر القضية ثوار و كتداكات النوبيون و رفاقهم في وادي حلفا وحلفا الحديدة، جاعلين من الطمي رسالة حياة، ومن الأرض شرفًا لا يُباع.
د. أحمد التيجاني سيد أحمد قيادي مؤسس في تحالف تأسيس ا٢٣ أكتوبر ٢٠٢٥ – روما، إيطاليا
المصدر: قرار المحكمة العليا السودانية – أكتوبر ٢٠٢٥ المتابعة: من وادي حلفا – الجمعيات التعاونية (عبكة وجمي) التوثيق: مشروع أرض الأطماء في وادي حلفا الصامده
نُفّذ هذا العمل بالاستعانة الذكاء الاصطناعي ضمن التعاون البحثي والفكري مع د. أحمد التيجاني سيد أحمد، في إطار مشروع تحالف تأسيس السودان (TASIS).
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة