حجوة أُمّ ضُبيبينة: السرد الشعبي كسلاح ضد العسكر والتمكين لماذا تكلّمت د. أماني الطويل من خارج الصندوق؟
د احمد التبجاني سيد احمد
«استعادة الثورة لا تكون بتكرارها، بل بتصحيح مسارها… وكفانا أجيالًا كتبت فأعتمت! صدقوني، نحن في زمنٍ صار فيه بصيص النور هو العتمة نفسها.»
حين تتكلّم د. أماني الطويل من خارج الصندوق، فإنها تخرج على نظام التفكير العربي الرسمي الذي ظلّ يرى السودان من وراء زجاج القاهرة لا من وجيعة الخرطوم. حديثها الأخير عن المشهد السوداني لم يكن تحليلًا باردًا، بل توصيفًا أخلاقيًا لتعب وطنٍ ما عاد يحتمل تكرار الحجج والخيانات.
في السودان، يبدو المشهد كحجوةٍ لا تنتهي: دخل العسكر فاشتروا الدم وخرجوا. دخلوا الملكية بلا دعوةٍ فقُذف بهم خارج الأسوار. عادوا بثوب المدنية متحمّسين، فمكثوا قليلًا ثم ماتوا ونُزحوا. حملوا بناتهم باسم الجعلية وباسم الدين جلسوا للتمكين. قال بشيرهم: «الزارعنا غير الله يقلعنا»، وردّت الشفّع: «خوة البشير خوة فاسدة». وقال البرهان: «حلم الوالد مقدّس ولا بد أن يتحقّق».
أماني الطويل قالت بوضوح إن السودان صار مسرحًا لتكرار المأساة، وإن لا خلاص إلا بإعادة تعريف العلاقة بين المدنية والعسكرية واستعادة الحكاية من يد التاريخ الرسمي إلى لسان الشعب. صوتها لا يطلب وصايةً عربية، بل اعترافًا بأن السودان ليس «ملفًا»، بل شعبٌ حيٌّ ودولةٌ تبحث عن ذاتها.
في الحكاية الشعبية السودانية، «أُمّ ضُبيبينة» ليست نكتة بل حيلة. هي درس في أن النجاة أحيانًا تكون بالذكاء لا بالقوة، بالانتظار لا بالصراخ. حين يسخر الناس من جلّاديهم، يفقد الجلّاد هيبته. وحين تُروى الحكاية بصوت الجدّات، يسقط خطاب السلطة والتلفزيون. لذلك صار السرد الشعبي سلاحًا أخلاقيًا ضد التمكين والاستبداد.
ومن سوبا إلى «سالي فو حَمَر» — كما كتب جمال محمد أحمد — تتكرّر الحكاية. لم تندثر «سالي» بسيوف الغزاة، بل بخيانة أهلها وعمى بصيرتهم. كذلك السودان: لا يسقطه العدو من الخارج، بل يُضعفه من يساومون عليه في الداخل. إنها قصة الخراب المتوارث حين يسكت الناس عن الخيانة ويقايضون الحقيقة بالمصلحة.
أما حميدتي، فقصته ليست كما تُروى في النشرات. لم تُنْجِبه الحركة الإسلامية، بل استخدمته ذراعًا لحماية البشير، ثم تخلّت عنه حين تجاوزها. وعندما اعترف بأخطائه ووقّع على الاتفاق الإطاري وانحاز للتحول المدني، بدأ امتحانه الحقيقي: هل يستطيع أن يحوّل القوة من الولاء إلى الدستور؟ أن يجعل من التجربة الميدانية قاعدةً لبناء الدولة لا لتقويضها؟ ذلك هو التحدي، لا بينه وبين خصومه فقط ، بل بينه وبين التاريخ. " امسكوا الخشب""
أما الرباعية الدولية (أمريكا، بريطانيا، السعودية، الإمارات) فتبحث عن استقرارٍ على الورق. لكن السودان يبحث عن وطنٍ على الأرض، عن شراكةٍ لا وصاية، ومدنيةٍ لا شعار. فالدولة لا تُبنى بتوازن المصالح، بل بوحدة الصفوف، والعدالة، والمساءلة.
لقد تعبت الأقلام، واشتكى الحبر من ثقل الدم، لكننا نكتب لأن الصمت هو الشقاء الأكبر. الكتابة في السودان ليست ترفًا بل محاولة للبقاء على قيد الذاكرة. من يكتب بضميره يخرج من قوائم «مدمني الفشل» ويدخل قوائم من يصنعون الوعي.
وفي نهاية الحجوة، يعود السؤال الذي يفتح الباب ولا يغلقه: قولُ د. أماني الطويل لا يخلو من الحقيقة، لكن لماذا الآن؟ لماذا انتظرت لتقول هذا بعد أن جفّ الدم، ولِمَ لم تُنصف الدعم السريع حين كان بين نيران الشكّ والاتهام؟ هل تخبئ الأقدار ما لم يُكتب بعد؟ أم أن حكاية فاطمة السمحة الشهرذادية — التي ظلّت تحكي لتؤجل الموت — قد وصلت أخيرًا إلى نهايتها؟
د. أحمد التيجاني سيد أحمد
قيادي ومؤسس في تحالف تأسيس السودان ا٢١ أكتوبر ٢٠٢٥ – روما، إيطاليا
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة