بين عامي 1983 و2005 عاش السودان واحدة من أطول وأعقد فتراته السياسية . فقد اختلط الدين بالسلطة ، والعسكر بالأيديولوجيا ، وتحولت الحرب الأهلية إلى معركة حول هوية الدولة نفسها . وخلال هذه العقود ، تبلورت ملامح السودان المنقسم ، الذي انتهى لاحقًا بانفصال الجنوب عام 2011 ، لكن جذور ذلك الانقسام تعود في الحقيقة إلى تلك الحقبة بالذات .
بدأت القصة عندما انتقل جعفر نميري من تبني النهج الاشتراكي إلى إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية . فبعد توقيعه اتفاقية أديس أبابا عام 1972 ، التي منحت الجنوب حكمًا ذاتيًا واسعًا ، حاول نميري لاحقًا استعادة السيطرة الكاملة على الإقليم . بدأ التنقيب عن النفط في مناطق بانتيو والوحدة عام 1980 ، فاحتدم الصراع حول ملكية الموارد . وفي عام 1983 أصدر نميري قوانين سبتمبر المعروفة بقوانين الشريعة الإسلامية ، وطبّقها بصرامة حتى على غير المسلمين . كما ألغى الحكم الذاتي الجنوبي ، وقسّم الإقليم إداريًا ، وأرسل الجيش لقمع أي تمرد . وكانت النتيجة اندلاع الحرب الأهلية الثانية بقيادة جون قرنق ، الذي طرح مشروعًا سياسيًا جديدًا تمامًا .
هكذا ولدت الحركة الشعبية لتحرير السودان ، التي لم ترفع شعار الانفصال منذ البداية ولكنها دعت إلى قيام ما أسمته "السودان الجديد" — دولة علمانية ديمقراطية لا مركزية ، تقوم على المواطنة بدلاً من الهوية الدينية . رأى قرنق أن الأزمة بجانب الصراع بين الشمال والجنوب ، تكمن في طبيعة الدولة السودانية نفسها ، التي قامت على الإقصاء والمركزية . ومع مرور الوقت ، أصبحت الحركة قوة عسكرية وسياسية كبرى ، تسيطر على معظم مناطق الجنوب وجبال النوبة والنيل الأزرق ، وتحظى بدعم إقليمي ودولي من أوغندا وإثيوبيا والغرب .
لكن سقوط نظام نميري عام 1985 لم يفتح بابًا حقيقيًا للتغيير . فخلال فترة الديمقراطية الثالثة (1985 – 1989)، تولت حكومة انتقالية برئاسة سوار الذهب ، ثم حكومة منتخبة برئاسة الصادق المهدي . إلا أن الأحزاب التقليدية عجزت عن إدارة التنوع أو التفاوض الجاد مع قرنق . استمرت الحرب ، وارتكبت القوات المسلحة انتهاكات واسعة في جوبا وملكال ، بينما تعاملت القوى الشمالية مع قرنق كمتمرد ماركسي لا كمشروع وطني بديل . وهكذا ضاعت فرصة تاريخية لبناء السودان الجديد عبر الحوار السياسي .
وفي عام 1989 ، وقع انقلاب الإنقاذ الذي قاده عمر البشير وحسن الترابي تحت شعار "ثورة الإنقاذ الوطني" ، لتبدأ مرحلة جديدة من القمع الأيديولوجي . تمّت أسلمة الحرب وتحويلها إلى "جهاد مقدس" ضد الجنوب ، وجُنّد آلاف الأطفال والشباب في معسكرات الدفاع الشعبي ، واستخدم الطيران والأسلحة الثقيلة ضد المدنيين . كما شهدت مناطق التماس عمليات تطهير عرقي واسعة ، خاصة في بور وملكال وجبال النوبة . أصبحت الحرب وسيلة لترسيخ السلطة وبناء دولة الحزب الواحد .
ومع نهاية التسعينيات تغيّر المشهد الدولي . فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي ، تبنّى الغرب خطاب حقوق الإنسان ، ووجد في جون قرنق حليفًا معتدلًا في مواجهة النظام الإسلامي بالخرطوم . تصاعدت الضغوط الدولية بقيادة الولايات المتحدة وكينيا وإثيوبيا ، لتفتح الطريق أمام المفاوضات التي انتهت بتوقيع اتفاق نيفاشا عام 2005 .
نصّت الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة بنسبة خمسين في المئة بين الشمال والجنوب ، وعلى فترة انتقالية مدتها ست سنوات يعقبها استفتاء لتقرير المصير ، كما أنشأت حكومة وحدة وطنية وجيشين متوازيين . لكنها كانت صفقة سياسية مؤقتة ، إذ منحت الجنوب مؤسسات مستقلة عن الدولة المركزية ، فحملت في داخلها بذور الانفصال منذ البداية .
وخلال هذه المرحلة ، ترسخت الانقسامات بدلاً من تجاوزها . لم تنهِ نيفاشا الحرب وإنما نظّمتها سياسيًا بين شريكين متشاكسين ، وثبّتت الثنائية بين الشمال والجنوب ، فيما استمر تهميش أقاليم أخرى مثل دارفور والشرق وجبال النوبة . كما أدى تدويل الملف السوداني إلى تحويله إلى ورقة ضغط بيد واشنطن ونيروبي .
أما من حيث النتيجة ، فقد انفصل الجنوب فعليًا منذ عام 1983 عندما ألغى نميري الحكم الذاتي ، وليس في 2011 حين أعلن الاستقلال الرسمي . فالحركة الإسلامية أقامت نظامًا أيديولوجيًا مغلقًا أقصى الجميع ، وحوّل الصراع من سياسي إلى وجودي . أما اتفاق نيفاشا فكان هدنة استراتيجية مهّدت للانفصال لاحقًا .
يمكن القول إن السودان ، منذ ثورة أكتوبر 1964 وحتى نيفاشا 2005 ، ظل يدور في دائرة مغلقة: ثورة → أمل → فشل → حرب → اتفاق → انهيار . وكل مرحلة أعادت إنتاج الدولة نفسها : دولة المركزية والدين والإقصاء . أما الجنوب فقد خرج من تلك الدائرة بثمن باهظ ، نال استقلالًا سياسيًا على جثة وطن مكسور .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة