في قلب المدينة، حيث تدور السيارات كعقارب ساعة لا تهدأ، وعلى ناصية شارع الواجهة المزدحم، ينتصب مبنى بنكٍ شامخ، رماديّ اللون، كأنه قلعة من إسمنت وحديد. واجهته الزجاجية تلتقط أشعة الشمس كل صباح، فتنكسر عليها الأضواء بانعكاساتٍ براقة، توحي بالدفء… لكن الداخل، كان عالماً آخر تمامًا. صالة البنك لا تشبه المؤسسات المالية المعتادة، بل كانت أقرب إلى غرفة انتظارٍ كبرى، باردة، صامتة، لا يُنتظر فيها شيء سوى أن تمر الحياة ببطءٍ شديد. الإضاءة الفلوريسنتية البيضاء تسكب فوق رؤوس الموظفين والزبائن ضوءًا باهتًا لا روح فيه، والجدران مصبوغة بلون رماديٍّ يماثل لون التقارير المكتبية. أما المقاعد الجلدية، فقد صُمّمت لتُوضع على مسافات محسوبة بدقة، توحي بانضباطٍ يُراد له أن يكون مطمئنًا، لكنه كان خانقًا. حتى الروائح في المكان لم تكن عشوائية: مزيجٌ من العطور الرخيصة، حبر الأوراق، نقود مبللة بالعرق، وقهوة قديمة تفوح من ركنٍ جانبي… خليطٌ يحمل تعب الموظفين أكثر مما يحمل نكهة القهوة ذاتها. في زاوية مرتفعة، محجوبة بزجاج شفاف، جلس جابر كمنصة مراقبة لا تنام. لم يكن موظفًا عاديًّا، بل كان مراقب البنك؛ الرجل الذي يوقّع بالختم الأحمر، ويُدوّن الملاحظات بقلمٍ أسود في دفترٍ مهترئ، لا يُفارق يده، وكأنه درعٌ ضد الأخطاء… وضد الرحمة. جابر رجل بدين، بطنه يتدلّى فوق حزامه كأنه درع واقٍ، ووجهه العريض يلمع دائمًا بطبقة رقيقة من العرق، رغم برودة المكيّف. يضع نظارته الطبية على أرنبة أنفه، ويتنقل ببصره بين الموظفين والعملاء مثل شرطيٍّ صارم في فيلمٍ أبيض وأسود، لا يفوته شيء. يمضغ ساندويتشاته بشهية مملة، واحدة تلو الأخرى، وكأن حقيبته الجلدية السوداء تحتوي على مؤونة طوارئٍ شخصية. يبدأ صباحه بتحضير قهوته بنفسه، لأنه لا يثق بأحد، ثم يجلس في مقعده كتمثال بيروقراطيٍّ لا يغادر مكانه إلا عند الكوارث. كان يعرف كل شيء. أكثر مما يجب. وأقل مما يتمنى. وعلى الطرف الآخر من الصالة، خلف شباك الصرافة الثالث، كانت تجلس أحلام. شابة في الثلاثينات، ذات ملامح هادئة، يغطي شعرها حجاب داكن اللون، يتناغم مع ملابسها الرسمية التي لا تبالغ في أناقتها، لكنها مرتبة على نحوٍ يوحي بأنها تهتم، دون أن تُفصح. عيناها سوداوان، عميقتان، كأنهما تخبئان قصة لم تُحكَ بعد. صوتها خافت، لا يكاد يُسمع إلا حين يُطلب منها الحديث. لا تضحك كثيرًا، ولا تتحدث أكثر من اللازم، لكنها كانت تؤدي عملها بإتقانٍ يُثير الإعجاب. تصل في وقتٍ أبكر من الجميع، وتغادر بعد أن يهمد الضجيج. موظفة يُشار إليها بالثقة والانضباط، لكنها كانت غامضة… كأنها لا تنتمي لهذا العالم من الأصل. ومع ذلك، في لحظات محددة، حين يخيّم الصمت على القاعة، ويغيب ضجيج الطابعات وهمسات العملاء، يمكن للمرء أن يلمح في عينيها شيئًا من الحنين… ربما لرجل، أو لحياةٍ لم تبدأ بعد. وفي أحد أيام منتصف الأسبوع، دخل رامي. رجلٌ لا يمر يوم في هذا الفرع دون أن يُسجّل دخوله. عميل معروف، رجل أعمال يعمل في المقاولات، يملك عدة حسابات تجارية. حضوره كان أنيقًا، بلا استعراض. كان يتحدث بنبرة ناعمة، واثقة، هادئة، لا يُكثر من الكلمات، لكن كل جملة يقولها، تصل كما يريد. ابتسامته ليست مغرية، بل مطمئنة. لم يطلب شيئًا يومًا خارج ما يسمح به النظام. لم يلمّح، لم يتجاوز، لم يتعدّ. لكنّه، في كل مرة، كان يختار شباك أحلام دون سواه. ينتظر بصبر، وإن طال الصف، ويبتسم حين يقترب، كأنّ اللقاء الصامت بينهما هو ما جاء لأجله، لا المعاملة المصرفية. كانت أحلام تُجيبه بمهنية لا تخلو من ارتباكٍ خفي، وربما بحذرٍ لا يفهمه أحد سواها. لم تكن تُظهر اهتمامًا، لكن عينيها كانتا تنعكسان كل مرة بقليلٍ من الضياع… وكأنها، رغم كل شيء، تنتظر منه شيئًا. حتى جاء ذلك اليوم… يومٌ شتوى بارد، حين دخل رامي على غير عادته، وكان وجهه متوترًا، وعيناه تبحثان عن شيء في غير مكانه. اقترب من شباكها، وانحنى قليلاً: — "أنا عندي شيك لازم يصرف اليوم… الحساب مش كافي حاليًا. ممكن أرجع المبلغ بكرة أو بعده بالكتير." صمتٌ طال أكثر مما يجب. نظرت إليه أحلام، ثم إلى الشاشة أمامها، ثم إلى الظل الذي يرصدها خلف الزجاج… جابر. كان يراقب، لكنّها لم تعبأ.ثم انصرف رامى صرفت أحلام الشيك عند حضور المستفيد من حسابها الشخصي. ووضعت أصل الشيك في درجها الخاص، المغلق دائمًا. لم تُبلّغ الإدارة. لم تطلب ضمانًا. لم تسأل نفسها لماذا. قبل نهاية اليوم عاد رامى نظر إليها، بعينين تائهتين بين الشكر والذنب، وقال: — "أنا مش هنسى ده أبدًا." لكنّه نسي. بعد أيام، صدر قرار إداري بنقل أحلام إلى فرع آخر. لم يكن هناك تبرير رسمي، ولا إشادة، ولا عقوبة. فقط… قرار. وفي صباح الأحد، دخل جابر كعادته، فوجد شباكها خاليًا. رفع حاجبيه، ودوّن شيئًا في دفتره. رامي؟ جاء بعد يومين، ووقف طويلًا أمام الشباك المغلق. لم يسأل. تنهد فقط، ثم رحل. مضت خمس سنوات. وفي قاعة محكمة مدنية، تجلس أحلام في الخلف، بهدوء. تُتابع إجراءً مدنى برفقة مراجعة مالية، لا علاقة له بذاكرتها… حتى فُتح الباب الجانبي. دخل رجال الأمن، برفقة مجموعة من المتهمين، مكبّلين بالأصفاد. ومن بينهم، كان رامي. شاحب الوجه، ناحل الجسد، عيناه زائغتان، وذقنه غير حليق. بدا كمن سقط من قمة حياته فجأة. وحين التقت عيناه بعينيها… توقف الزمن. قرأ القاضي بصوتٍ صارم: — "المتهم رامي … بتهمة إصدار شيكاتٍ بدون رصيد، وخداع مؤسسات مالية. الحكم: خمس سنوات مع النفاذ." كل شيء كان يبدو بعيدًا، ضبابيًا. لكن قلب أحلام كان هناك، عند تلك النظرة، التي لم تُفصح عن شيء، لكنها قالت كل شيء. هل كذب؟ هل خانها هل خان نفسه؟ هل كانت مجرّد سطر في ملفٍّ طويل من خيباته؟ ثم تذكّرت. الشيك. ذاك الورق الصغير الذي لم تُقدّمه يومًا، ولا زال راقدًا في درجها الحديدي… الذى لم يعد صالح بعد ستة اشهر، ثم انتهى دون أن تمسّه. لم تطلبه. لم تُهدّده. لم تنتقم. في تلك الليلة، جلست على الأرض، بجوار دولابها المعدني الصغير، وفتحت الدُرج القديم. أخرجت الشيك. نظرت إليه طويلًا، كأنها ترى للمرة الأولى وزنه الحقيقي. لم يكن مجرّد مبلغ… بل وعد بلاسند ، خذلان بلا غطاء، ذكرى، ورجل لم يُكمل ما بدأ. مزّقته بهدوء. لا لأنه لم يعد صالحًا. بل لأنه لم يعد يستحق أن يُحتفظ به. هكذا بدأ الحب… في صالةٍ تُدار بالأرقام، وانتهى في قاعةٍ تُنطق فيها الأحكام. وبقيت هي خلف نظارتها الزجاجية وزجاج النافذة تنتظر مراجع لم يأتى بعد،،،،،
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة