في هذا المقال سنفكّك الوثيقة السياسية الصادرة عن تحالف "صمود" – التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة – التي نُشرت في يونيو 2025 تحت عنوان "رؤية سياسية لإنهاء الحروب واستعادة الثورة وتأسيس الدولة". تُعدّ هذه الوثيقة نموذجًا لاستمرار الذهنية الإصلاحية–المركزية التي تكتفي بإدارة الأزمة دون تفكيك جذورها البنيوية العميقة. يعتمد التحليل هنا على مقاربة نقدية تستند إلى مشروع "السودان الجديد" وتحالف "تأسيس"، اللذين يقدّمان رؤية تأسيسية لإعادة بناء الدولة السودانية على أسس علمانية، ديمقراطية، وعدالة تاريخية. ويخلص المقال إلى أن خطاب "صمود" لا يشكّل قطيعة مع الماضي بقدر ما يعيد إنتاج أزماته عبر لغةٍ فضفاضةٍ وشعاراتٍ متكرّرةٍ تُخفي غياب الموقف المعرفي الجذري، وتتهرّب من مساءلة بنية الدولة والعنف البنيوي والتمييز التاريخي، مكتفية بخطابٍ أخلاقي- وجداني عن "الثورة" و"السلام" يفتقر إلى مضمونٍ تأسيسيٍّ أو برنامجٍ تحويليٍ فعلي.
مدخل: أزمة الخطاب السياسي في السودان تُظهر القراءة المتأنية للخطاب السياسي السوداني خلال العقد الأخير حالة تأرجحٍ بنيوي بين النوستالجيا الثورية والواقعية المفرطة؛ بين التعلّق الرومانسي بماضي الانتفاضات، والاستسلام للوقائع المفروضة بعد الثورة. في هذا السياق، تمثل وثيقة "صمود" استمرارًا لهذه الثنائية، إذ تتبنى خطابًا تعبويًا أخلاقيًا عن "استعادة الثورة" و"وقف الحرب"، لكنها تعجز عن الإجابة على السؤال الجوهري: ما هي طبيعة الدولة التي تنتج الحرب؟ هنا يتبدّى ما وصفه أنطونيو غرامشي بـ"الهيمنة الثقافية"، أي إعادة إنتاج بنية الفكر المهيمن للمركز القديم في خطابٍ يبدو معارضًا في الشكل، لكنه يعمل ضمن نفس الحقل الدلالي والفكري للدولة الكولونيالية السودانية.
إن وثيقة "صمود" ليست خروجًا عن هذا النمط بقدر ما هي تجسيدٌ جديدٌ لأزمة الوعي النخبوي السوداني. فهي تُقدّم نفسها بوصفها وثيقة للتغيير الثوري، بينما تُعيد إنتاج اللغة الإصلاحية نفسها التي فشلت في تجاوز بنية الدولة ما بعد الاستعمار وبهذا المعنى، يمكن القول إنّ الخطاب "الصمودي" يجسّد ما وصفه أنطونيو غرامشي بـ "اللحظة التوفيقية العقيمة"؛ تلك المرحلة التي تحاول فيها النخب التوفيق بين القديم والجديد دون امتلاك الشجاعة المعرفية أو الإرادة التاريخية للقطع مع الأول أو تأسيس الثاني. إنها لحظة المراوحة بين الامتثال والممانعة، حيث يتحوّل الخطاب السياسي إلى تبريرٍ للعجز باسم الواقعية، وإلى تسويةٍ فكرية مع البنية التي يُفترض تجاوزها. وهي اللحظة نفسها التي حلّلها فرانتز فانون في "معذبو الأرض" حين تحدّث عن تجمّد البرجوازية الوطنية بعد الاستقلال، تلك التي فقدت طاقتها الثورية فتحوّلت من فاعلٍ تحرّري إلى وسيطٍ خانعٍ بين الاستعمار القديم والشعب الثائر؛ تستبدل مشروع التحرّر بإدارة الأزمة، والسياسة بالتبرير الأخلاقي، والثورة بالشعار. وهذا بالضبط ما تفعله "صمود" اليوم في تحرّكاتها وتحالفاتها – سواء مع "الرباعية" أو غيرها – إذ تعيد إنتاج سياسات التوفيق والتأجيل التي تُبقي جذور الأزمة قائمة، وتستعيض عن الفعل الثوري بحيل خطابيةٍ خاليةٍ من المضمون التحويلي.
ملخّص الخطاب: لغة عامة في مواجهة واقع متصدّع تتسم وثيقة صمود بلغة عامة تفتقر إلى الدقة المفاهيمية والجرأة النقدية في مقاربة الواقع السوداني الراهن. وهي، من منظور تحليل الخطاب، نموذجٌ لما يسميه ميشيل فوكو "سياسة الصمت"، أي إنتاج المعرفة من خلال ما تختار المؤسسات السكوت عنه لا من خلال ما تصرّح به. فالوثيقة، رغم كثافة عباراتها، تُمارس الصمت في جوهرها، لأنها تحجب الأسئلة البنيوية التي تشكّل أصل الأزمة السودانية. يمكن اختزال مضمون الوثيقة في سمات خمس رئيسة: ١/ استعادة الخطاب الثوري دون مراجعة نقدية لتجربة ديسمبر وأسباب فشلها، في استعادة شبه طقوسية لما يسميه بول ريكور "ذاكرة بلا وعي تاريخي"، أي استدعاء الماضي كشعار رمزي دون تحليل للتاريخ كمسؤولية! ٢/ تكرار الحديث عن إنهاء الحرب وإشاعة السلام من دون تحليل البنية الحربية للدولة السودانية ذاتها، ودون الاعتراف بأن الحرب ليست حدثاً استثنائياً بل بنية تأسيسية في النظام السياسي السوداني القائم! ٣/ إحالة شكلية إلى مفهوم "الدولة المدنية" من دون تفكيك بنيتها أو مصادر سلطتها، ومن دون إدراك العلاقة الجوهرية بين "المدنية" و"العلمانية" بوصفهما شرطين متلازمين لا يمكن فصلهما من الناحية النظرية أو السياسية! ٤/ تجاهل القضايا التأسيسية مثل العدالة التاريخية، والعلمانية، وحق تقرير المصير، عبر تصنيفها كـ "إشكالات مؤجلة"وهو ما يعكس رغبة في تأجيل الأسئلة المفصلية التي تحدد مستقبل السودان. ٥/ تبنّي خطاب الوحدة الوطنية المجرّد الذي يُعيد إنتاج سردية "السودان الواحد" دون مساءلة شروط هذه الوحدة أو بنيتها العنصرية منذ عام 1956، في تجاهل واضح للتاريخ الاستعماري الداخلي للدولة. هكذا، يتبدّى خطاب صمود بوصفه محاولة لإعادة تأهيل الدولة القديمة بوسائل لغوية جديدة، دون أن يقترب من الجذر البنيوي للمأساة.
ثانياً: الجذور المغيّبة في الخطاب "الصمودي" ما تتجنبه وثيقة "صمود" هو بالضبط ما يجعل مشروع "تأسيس" يمثل لحظة قطيعة معرفية وتاريخية في الوعي السياسي السوداني. فالوثيقة لا تواجه أسئلة التأسيس، بل تدور حولها في دوائر لغوية مفرغة. ويمكن تحديد القضايا التي تهربت منها على النحو الآتي: ١/ مسألة الدولة كمشكلة لا كإطار تتعامل وثيقة "صمود" مع الدولة السودانية بوصفها إطاراً يمكن إصلاحه، بينما تكشف التجربة التاريخية، كما بيّن فرانتز فانون وأنطونيو غرامشي وجون لوك، أن الدولة ليست كياناً محايداً بل نتاج صراع اجتماعي–تاريخي تشكّل داخل مشروع استعماري–مركزي جعلها أداةً لإعادة إنتاج الهيمنة لا وسيلة لتحقيق العدالة. فالدولة في السودان لم تكن يوماً حَكَماً بين مكوّنات المجتمع، بل جهازاً احتكارياً للعنف والسلطة والثروة، محكوماً بمنظور إثني–ديني ضيّق. يرى تحالف "تأسيس" أن تجاوز هذه الأزمة لا يتم عبر إصلاح الدولة القديمة، بل عبر قطيعة تأسيسية مع ما يمكن تسميته بـ "مشروع الدولة العربية الإسلامية- السودان القديم" الذي قام على الإقصاء الطبقي والتمييز الإثني والهيمنة الثقافية. فإعادة بناء الدولة تعني إعادة تعريفها من الجذر بوصفها عقداً اجتماعياً جديداً يقوم على المواطنة المتساوية والعلمانية والعدالة التاريخية، لا على الامتياز والهويات المفروضة. لقد تشكّلت الدولة السودانية، منذ الاستقلال، وفق نموذج ما بعد كولونيالي يعيد إنتاج عقل المستعمِر داخل مؤسساتها، حتى أصبحت أداة قهرٍ داخلي. وقد عبّر فرانتز فانون عن هذا النموذج حين كتب: "الاستقلال الذي يُدار بعقل المستعمِر يولّد دولةً ضدّ شعبها" إن وثيقة "صمود" تتجاهل هذه الحقيقة البنيوية، مكتفيةً بخطاب المصالحة الشكلية الذي يعالج النتائج دون مواجهة الأسباب. أما مشروع "تأسيس" فيطرح رؤيةً تحوّلية تعتبر الدولة نفسها موضع الصراع لا وسيلته، وتدعو إلى تفكيك بنيتها الإقصائية من أجل تأسيس دولةٍ جديدة تُمارس فيها السلطة بوصفها تجسيداً للإرادة الشعبية لا استمراراً لسلطة القهر التاريخي.
٢/ العلمانية كأساسٍ للعدالة والمواطنة تتعامل وثيقة "صمود" مع العلمانية كما لو كانت لفظاً محرّماً، متجنّبةً تسمية العدو البنيوي الحقيقي: الدولة الدينية. في المقابل، يؤكد مشروع "السودان الجديد" أن العلمانية ليست نقيضاً للدين، بل نقيضاً لاستخدام الدين كأداة للهيمنة الرمزية والسياسية. فهي، في جوهرها، الشرط الهيغلي للحرية، والضمان الراولزي للتعدد والتسامح، والقاعدة الفانونية للمواطنة المتساوية. فالعلمانية ليست موقفاً ضد الإيمان، بل ضد تحويل الإيمان إلى مؤسسة قهر وإقصاء. إن تجاهل "صمود" للعلمانية لا يمكن اعتباره موقفاً حيادياً، بل هو خضوع للابتزاز الديني والسياسي الذي شكّل، تاريخياً، أساس التمييز في الدولة السودانية. وكما يبيّن جون رولز وشارلز تايلور، فإن إدارة التعدد في المجتمعات الحديثة تتطلب فضاءً عاماً محايداً يُتيح لجميع المواطنين المشاركة على قدم المساواة دون فرض مرجعية دينية واحدة. أما تحالف "تأسيس" فيطرح الدولة العلمانية الديمقراطية اللامركزية كشرطٍ بنيوي لتحقيق العدالة التاريخية والمواطنة المتساوية، مستلهماً تجارب دول مثل جنوب إفريقيا والهند، وغيرهما حيث لم يتحقق السلام والاستقرار إلا عبر فصل الدين عن الدولة وبوضوح، وتحرير السياسة من وصاية المقدّس. فالعلمانية، في هذا التصور، ليست خياراً فكرياً فحسب، بل ضرورة تأسيسية لبناء دولةٍ عادلة تتسع للجميع.
٣/ العدالة التاريخية لا الانتقالية وحسب تنادي وثيقة صمود بـ"المصالحة" دون مواجهة الجريمة، فتضع العربة أمام الحصان، متجاهلةً أن العدالة هي شرط المصالحة لا نتيجتها. وقد عبّر بول تيليش عن هذه المفارقة الأخلاقية حين قال: "المصالحة قبل العدالة ليست سلاماً، بل تغطية لجرحٍ لم يُنظَّف" إن هذا النهج يجعل من "السلام" غطاءً لإفلات الجناة من العقاب، ومن "التسوية" بديلاً عن الحقيقة. في المقابل، يطرح تحالف "تأسيس" مفهوم العدالة التاريخية بوصفها ذاكرة مقاومة، وفعل استعادة لا مجرد تعويض. فهي ليست عملية قانونية انتقالية وحسب، بل مشروع لإعادة تصحيح مسار الدولة واستعادة حقوق المقهورين في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق والشرق، بل في كل السودان المهمّش. أما وثيقة "صمود" فلم تقترب من العدالة في جذورها التاريخية، إذ اختزلتها في تسويات سياسية سطحية تُبقي على البنية التي أنتجت الجريمة. يؤكد بول ريكور في كتابه "الذاكرة، التاريخ، النسيان" أن العدالة ليست تسوية بين طرفين متكافئين، بل اعتراف بالضحايا واستعادة لذاكرة الجماعة السياسية. من هذا المنظور، يقدّم مشروع "السودان الجديد" العدالة التاريخية كـ فعل تأسيسي للشرعية الجديدة، يُعيد تعريف الدولة بوصفها أداة للإنصاف لا أداة للهيمنة. إنها عدالة تُنهي الدائرة التاريخية للإفلات من العقاب، وتحوّل الألم الجمعي إلى وعيٍ تأسيسيٍّ يفتح أفق التحرر والمصالحة الحقيقية.
٤/ حق تقرير المصير كحق إنساني- سياسي تتجاهل وثيقة "صمود" الإشارة إلى حق تقرير المصير، رغم كونه أحد الحقوق الأساسية المعترف بها دوليًا بموجب ميثاق الأمم المتحدة (1945) والعهدين الدوليين لحقوق الإنسان (1966)، واللذين يؤكدان أن لجميع الشعوب الحق في أن تقرّر بحرّية وضعها السياسي وتنميتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. إنّ تجاوز هذا الحق يُعبّر عن رؤية مركزية تعتبر الوحدة قسرية لا طوعية، بينما يرى مشروع "تأسيس" أنّ الوحدة الحقيقية لا تقوم إلا على الإرادة الحرّة والمساواة. وقد أكّد الكثير من المفكرين، ان إنكار تقرير المصير يعني إنكار المساواة بين الشعوب، وأوضح فرانتز فانون، لا تدخل الأمم المقهورة التاريخ إلا عبر فعل الاختيار الذاتي. وعليه، فإنّ حق تقرير المصير لا يهدد وحدة السودان بل يؤسس لوحدته الطوعية القائمة على العدالة والحرية؛ إذ إنّ الوحدة التي لا تقوم على الاختيار الحرّ ليست سوى استمرارٍ للعنف باسم الدولة، بينما الوحدة الطوعية هي بداية الوعي الوطني الجديد في مشروع السودان الجديد.
٥/ الجيش وبنية العنف تتعامل وثيقة "صمود" مع الحرب كأزمة ظرفية قابلة للمعالجة عبر ترميم المؤسسة العسكرية وإعادة هيكلتها، متجاهلةً أن هذه المؤسسة تمثّل البنية الجوهرية للعنف المنظَّم في الدولة السودانية. فدعوتها إلى إصلاح الجيش دون مساءلة تكوينه التاريخي ودوره في إعادة إنتاج الحروب تعني في جوهرها، استمرار الدولة المركزية التي احتكرت العنف لعقود باسم الوطنية الزائفة. أما تحالف "تأسيس" فينطلق من رؤية جذرية - تحررية، تعتبر بناء الجيش فعلاً فلسفيًا وسياسيًا يرمي إلى تفكيك احتكار العنف باسم الدولة، وإعادة تعريف الشرعية العسكرية في إطار ديمقراطي مدني جديد. فالمطلوب ليس إصلاح مؤسسة قائمة، بل تأسيس جيش قومي جديد يستمد شرعيته من الإرادة الشعبية والمواطنة المتساوية، لا من الامتياز الطبقي أو العرقي أو الأيديولوجي. وتتسق هذه الرؤية مع مفهوم ماكس فيبر للدولة بوصفها الكيان الذي "يحتكر الاستخدام المشروع للعنف"، و"تأسيس" يعيد قراءة هذا التعريف من منظور نقدي - ما بعد كولونيالي، كاشفًا أن احتكار العنف في السودان لم يكن شرعيًا، بل امتدادًا لبنية استعمارية داخلية استخدمت العنف للحفاظ على المركز وهيمنة النخب. ومن ثمّ، فإن بناء جيش جديد وفق رؤية "تأسيس" يمثل تحررًا من إرث الدولة الاستعمارية وبداية لعقد اجتماعي جديد تُمارَس فيه القوة كوسيلة لحماية الشعب لا لإخضاعه.
ثالثاً: السودان الجديد وتحالف “تأسيس” بوصفهما لحظة تأسيسية في مقابل الارتباك المفاهيمي لوثيقة "صمود"، يقف مشروع السودان الجديد وتحالف تأسيس بوصفهما مشروعاً تأسيسياً يعيد تعريف السياسة من الداخل. يقوم هذا المشروع على مرتكزات فكرية ودستورية واضحة ومترابطة: ١/ القطيعة مع الدولة القديمة وتأسيسها على مبادئ العلمانية، والديمقراطية، والعدالة التاريخية، والمواطنة المتساوية. ٢/ الاعتراف بالتعدد الثقافي والإثني والديني بوصفه مكوّناً بنيوياً لا عارضاً في الهوية الوطنية. ٣/ إرساء مبادئ فوق دستورية تمنع إعادة إنتاج الهيمنة المركزية واستغلال الدين والجيش في السياسة. ٤/ ترسيخ العدالة التاريخية كذاكرة سياسية تضمن ألا يُعاد إنتاج النسيان كأداة حكم، في انسجام مع ما طرحه بول ريكور حول ضرورة التذكّر من أجل التأسيس الأخلاقي. ٥/ اللامركزية بوصفها عدالة مكانية، وفق تحليل ديفيد هارفي وهنري لوفيفر، أي إعادة توزيع السلطة والموارد بما يضمن الحق في المدينة والريف معاً. وهكذا يتحول "تأسيس" إلى ما يسميه إيمانويل ليفيناس "البدء من الآخر"، أي جعل المهمّش مركزاً للمعنى، لا تابعاً في الهوامش.
رابعاً: نحو قراءة فلسفية لأزمة "صمود" من منظور فلسفة السياسة، يمكن تصنيف خطاب "صمود" ضمن ما يُعرف بـ الوعي التوفيقي–اللاهوتي، أي وعي يسعى إلى الجمع بين المتناقضات دون حسم، في محاولة لتبرير الماضي باسم الوطنية، والسكوت عن الجريمة باسم السلام، والتنازل عن المبادئ باسم الواقعية. إنه وعيٌ يخاف الحقيقة لأنها تُلزمه بالفعل، ويختبئ خلف اللغة الأخلاقية لتجنّب الأسئلة السياسية. في المقابل، يمثل مشروع تأسيس ما يمكن تسميته بـ الوعي التأسيسي–الأنطولوجي، لأنه يطرح سؤال الوجود السياسي ذاته ما معنى أن نكون سودانيين؟ وما هو شكل الدولة الذي يجعل الوجود ذاته عادلاً؟ بهذا المعنى، فإن تأسيس ليس مشروع إدارة سياسية، بل مشروع وجودي لإعادة كتابة عقد الوجود السوداني. إنه انتقال من الأخلاق إلى السياسة بمعناها الفلسفي العميق: من إدارة الدولة إلى تأسيس العالم المشترك، كما عند هايدغر وحنه آرنت في تصورهما للسياسة كفضاء للكشف والحرية.
اخيرا: بين الذاكرة والمستقبل تُجسّد وثيقة "صمود" استمرارًا لأزمة الوعي السياسي لدى النخب السودانية، تلك التي أدمنت إهدار اللحظات التاريخية الفاصلة عبر الاكتفاء بخطابٍ توافقي يرضي الجميع ولا يُغيّر شيئًا. فهي تمثل ذروة ما يمكن تسميته بـ "أخلاق الارتجال السياسي"، إذ تتجنّب مساءلة البنية العميقة التي أنتجت المأساة السودانية، وتكتفي بشعارات الإصلاح والمصالحة دون مشروعٍ معرفي يؤسّس لقطيعةٍ مع الماضي. في المقابل، يطرح مشروع "تأسيس" قطيعةً جذرية تتجاوز منطق الإصلاح الجزئي إلى إعادة تعريف الوطن والمواطنة والعدالة بوصفها مفاهيم تأسيسية لا شعارات سياسية. فـ "السودان الجديد" ليس وعدًا مؤجلًا أو شعارًا طوباوياً، بل أفقٌ يتجلّى بالفعل في الممارسات اليومية في المناطق المحرّرة: في الزراعة كفعل سيادة، وفي مشاريع الفن كفعل حرية، ومشاريع العدالة كذاكرة مقاومة. وهو ما يعبّر عنه بول ريكور بمفهوم "الذاكرة الفاعلة"؛ الذاكرة التي لا تكتفي باستحضار الألم، بل تُحوِّله إلى معرفة، والمعرفة إلى مشروعٍ للتحرّر. ومن هنا، فإن السؤال الحقيقي الذي ينبغي أن يُطرح على "صمود" ليس: كيف نُنهي الحرب؟، بل: هل نمتلك الشجاعة لمواجهة الدولة التي أنتجت الحرب؟، إذ إن الحرب في السودان ليست حادثةً ظرفية بل بنيةٌ متجذّرة في دولةٍ تأسست على الامتياز والإقصاء واحتكار الحقيقة والعنف. لقد آن الأوان لولادة وعيٍ سودانيٍ جديد يقطع مع ثقافة التسوية والإرجاء، ويستعيد شجاعة التفكير الجذري التي دعا إليها فرانتز فانون حين أكّد أن الثورة الحقيقية تبدأ من مساءلة الذات قبل الآخر. فالتاريخ، كما يذكّرنا هيغل، لا يُكتب بالنوايا الطيبة بل بالمواقف التي تُغيّر مسار الوعي. وحين يمتلك السودانيون الجرأة على مواجهة جذور أزماتهم - الدين، والدولة، والهيمنة - لن يبقى "السودان الجديد" فكرة مؤجلة، بل سيتحوّل إلى تحقّقٍ فلسفيٍ وتاريخيٍ لإرادة الحرية، وإلى ولادة وطنٍ يُعيد كتابة تاريخه بوعيٍ لا يهرب من الذاكرة، بل يجعل منها أفقًا للمستقبل.
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة