نشر الكاتب الجنوب سوداني بوكوان أكانجسون مقالا تناول فيه ما وصفه بـ “الترحيل القسري لمواطني جنوب السودان من السودان”، وانتقد فيه ما اعتبره ممارسات تمسّ كرامة الجنوبيين المقيمين، مطالبا الحكومة السودانية بالالتزام بالمعاهدات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان. غير أن قراءة هذا الطرح تكشف إغفالا للسياق السياسي والأمني الذي يعيشه السودان اليوم، وهو ما يستوجب وقفة توضيحية تضع الأمور في نصابها الصحيح.
فيبدو أن بوكوان قد نسي أو تجاهل حقيقة جوهرية مفادها أن السودان اليوم دولة مستقلة حرة، لم تعد تخضع لابتزاز أو وصاية من الجنوبيين كما كان الحال في مرحلة ما قبل الانفصال. فالعلاقة بين الخرطوم وجوبا لم تعد علاقة “شعب واحد في دولتين”، بل علاقة بين دولتين مستقلتين ذات سيادة، لكلّ منهما الحق الكامل في تنظيم الوجود الأجنبي على أراضيها وفقا لظروفها الأمنية والسياسية، لا سيما في زمن الحرب حيث تشتد المخاطر وتتداخل الولاءات.
إن السودان، شأنه شأن أي دولة في العالم، يملك الحق المطلق في حماية أمنه القومي وتنظيم وجود الأجانب داخل حدوده، خصوصاً عندما تثبت الوقائع الميدانية أن هذا الوجود قد تحوّل في بعض الحالات إلى غطاء لنشاطات عدائية أو دعم مباشر لقوات متمردة. لقد كشفت معارك تحرير الخرطوم والجزيرة عن حقائق لا يمكن القفز فوقها، إذ ثبت أن كل مدفعية موجّهة ضد الجيش السوداني والمدنيين العُزّل كان خلفها عناصر من الجنوب، فالجنجويد كما هو معلوم لا يجيدون استخدام هذا النوع من الأسلحة الثقيلة ولا يمتلكون الدراية التقنية لتشغيلها. ومن هنا، فإن الحديث عن “ترحيل قسري” بمعناه الحقوقي يفقد كثيرا من وجاهته حين يتعلق الأمر بأفراد تورطوا في دعم طرف معتد أثيم أزهق أرواح السودانيين وهدد بقاء الدولة نفسها.
لسنا في مقام الدعوة إلى الانتقام أو التعميم، فالجريمة تبقى شخصية المسؤولية، ولكن الخطأ الأكبر هو تصوير إجراءات تنظيم الإقامة وضبط الأمن وكأنها انتهاك لحقوق الإنسان. فالقوانين الدولية نفسها تُقرّ بحق الدول في إبعاد الأجانب لأسباب أمنية، شريطة أن تتم الإجراءات ضمن الأطر القانونية، وهو ما تفعله السلطات السودانية بالفعل. إن احترام السودان لحقوق الإنسان لا يعني التفريط في أمنه القومي، كما لا يمكن لأي دولة أن تغمض عينيها عن تهديدات موثقة لمجرد الخشية من “الانطباع الدولي”. فحقوق الإنسان لا تُفهم بمعزل عن حق الدولة في البقاء وحماية مواطنيها من العدوان.
ويبدو أن من يطلقون تهمة “الترحيل القسري” يتناسون أن كل دولة في العالم تمارس حقها في ضبط حدودها. فحتى الدول التي تتشدق بالإنسانية، كأميركا مثلاً، لم تتردد في استخدام سياسة “Shoot to kill” ضد المتسللين من المكسيك وهم مدنيون لا عسكريين، دون أن يجرؤ أحد على اتهامها بانتهاك الحقوق، رغم قدرتها على بناء سور حدودي يحميها دون اللجوء إلى الرصاص. فكيف يُستنكر على السودان ما يُعدّ “سياسة أمنية مشروعة” في دول كبرى؟
المدهش أن عبارة “Shoot to kill” نفسها، التي يستحضرها البعض اليوم لتشويه صورة الدولة السودانية، جاءت أصلا في سياق حماية الحدود الجنوبية ضد جيش الحركة الشعبية عندما وصلت جحافله إلى مناطق البترول داخل العمق السوداني حيث منطقة هجليج النفطية وتم تدميرها في عدوان مشهود. ومع ذلك، استُخدمت تلك العبارة لاحقا من قبل جوبا لتعزيز نهج الابتزاز السياسي القديم، كما استغلها بعض الخصوم في الداخل ضمن صراعاتهم ومزايداتهم السياسية.
إن من المهم استحضار السياق القانوني والسيادي لمثل هذه الإجراءات. فحدود الدولة تمثل رمز سيادتها الجغرافية والسياسية والأمنية، ويُعد تجاوزها دون إذن عملا غير مشروع قانونا، سواء أكان المتسلل مدنيا أم عسكريا. ويمنح القانون الدولي الدول الحق في استخدام القوة عند وجود تهديد أمني مباشر، كما يجيز الرد الدبلوماسي أو العسكري في حال وقوع التسلل في وقت السلم، أما في زمن الحرب فيُعتبر التسلل عملا عدائيا أو تجسسيا وهدفا عسكرياً مشروعاً، ويحق للدولة حينها استخدام القوة المميتة دفاعاً عن سيادتها.
لذلك، فإن السودان حين ينظم وجود الجنوبيين أو يتخذ إجراءات ضد من يشتبه في تورطهم في دعم العدوان، لا يمارس الترحيل القسري كما يروّج البعض، بل يمارس حقه المشروع في الدفاع عن النفس وصون أمنه القومي.
إن السودان اليوم ليس رهينة لعقدة الماضي ولا خاضعا لأي ابتزازٍ عاطفي باسم “علاقات الأخوية”. فمرحلة المجاملات السياسية ولّت، وحلّ محلها عهد السيادة الوطنية الواعية التي تفرّق بين حسن الجوار والخضوع للابتزاز. فالسودان لم يعد قابلًا لابتزاز الجنوبيين، لا بالدموع ولا بالشعارات، لأن الزمن تغيّر والسودان تغيّر معه.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة