حين أطاح الفريق إبراهيم عبود بالحكومة في نوفمبر 1958، رفع شعار "الإنقاذ من الفوضى الحزبية"، ووعد بإصلاح الدولة وإعادة النظام . بدا المشهد وكأن البلاد دخلت مرحلة من الانضباط والاستقرار . لكن ما حدث كان العكس تمامًا . من خلف تلك الواجهة الهادئة ، بدأت واحدة من أكثر الفترات قسوة في تاريخ السودان الحديث . حيث اصبحت في عهده امتدادًا للثكنات . تحولت الدولة إلى جهاز عسكري ضخم يُدار بالأوامر ، وفقد السودان صوته المدني . أُلغيت الأحزاب ، وجُمّدت الحياة البرلمانية ، وكمّمت الصحف . ومن يومها بدأ عهد "الأمر والطاعة" وفتح شهية الجيش للسلطة .
لكن الأخطر بجانب القمع السياسي ، إعادة تشكيل هوية البلاد من أعلى . فالنظام العسكري رفع راية جديدة تقول إن السودان دولة عربية إسلامية ، وعلى الجنوب أن "يلتحق بالهوية الوطنية" . كانت تلك لحظة ميلاد مشروع هندسة قسرية للهوية ، أراد أن يصهر كل اختلاف في بوتقة واحدة ، ولو بالقوة .
في بداية الستينيات ، كان الجنوب يغلي . التمرد الذي اندلع أول مرة في توريت عام 1955 ظل محدودًا لسنوات ، لكن عبود حوله إلى حرب مفتوحة . فُرضت حالة الطوارئ ، وانتشرت القوات في جوبا وملكال وواو ، وبدأت حملات الإعدام الميداني والاعتقال الجماعي . تحوّل الجنوب كله في نظر الدولة إلى "منطقة متمردة" . فشهادات تلك الفترة تتحدث عن مجازر مروّعة ضد المدنيين الجنوبيين ، خصوصًا بعد أحداث 1963–1964. وثائق بريطانية لاحقة أكدت تنفيذ عمليات إعدام جماعي بحق أكثر من 300 شخص في ملكال وجوبا ، بأوامر مباشرة من ضباط في الجيش . كانت تلك أولى صفحات الدم الرسمية في سجل الدولة السودانية .
لم تقتصر المعركة على السلاح . استخدم النظام أدوات أخرى لفرض السيطرة الثقافية والدينية . أُغلقت المدارس التبشيرية التي كانت تديرها الكنائس ، وفُرض تدريس اللغة العربية والدين الإسلامي في مؤسسات الجنوب . أُرسل معلمون شماليون في ما سُمّي "حملات التنوير" ، بينما طُرد كثير من المعلمين الجنوبيين من وظائفهم .فأصبح التعليمً والتعريب قسريًا مما زرع الكراهية بدل التفاهم ، وعمّق الهوة بين الشمال والجنوب .
أما الإعلام الرسمي ، فتحوّل إلى سلاح من نوع آخر . كان يصف الجنوبيين بأنهم "عملاء للاستعمار" و"أعداء الإسلام" . ومع تكرار هذه العبارات ، ترسخت في الوعي العام صورة الجنوب كخطر داخلي . هكذا تغيّر الصراع من مسألة سياسية إلى قضية هوية ودين . والأسوأ أن هذا الخطاب ظل حاضرًا رغم سقوط عبود في الأنظمة التي جاءت بعده .
عبود كان يؤمن أن وحدة السودان لا تُحمى إلا بالقوة العسكرية . لكن النتيجة كانت العكس ، حيث تضاعف عدد اللاجئين إلى أوغندا والكونغو ، وظهرت الحركة المسلحة بقيادة جوزيف لاقو تحت اسم "الأنيانيا" . مما أدى إلي أن فقدت الخرطوم سيطرتها الفعلية على مناطق واسعة من الجنوب ، وبدأت عمليًا أول حرب أهلية في تاريخ البلاد .
بحلول عام 1964، كانت النيران قد امتدت من الجنوب إلى الشمال . الغضب الشعبي بلغ ذروته ، وخرج طلاب جامعة الخرطوم في مظاهرات ضخمة بعد مقتل الطالب أحمد القرشي . فكانت تلك الشرارة التي فجّرت ثورة أكتوبر وأسقطت عبود . لكن سقوط الجنرال لم يوقف الحرب ، وإنما كشف أن جذور الأزمة أعمق من أي نظام ، وأن الخلل في بنية الدولة نفسها .
سنوات عبود كانت لحظة اختبار للدم والوطن . فيها استُخدم الجيش لإدارة السياسة ، والإعلام لتبرير القمع ، وسلاح الهوية لتقسيم الناس . وحين رحل عبود ، بقيت الدولة التي صنعها قائمة — بوجه جديد فقط .
ومن بين رماد تلك "الحرب الصامتة" وُلدت ثورة أكتوبر 1964، حاملةً مفارقة قاسية : ثورة للحرية في الشمال ، وصمت للدم في الجنوب .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة