في زمنٍ تتغير فيه ملامح الوعي الإنساني بسرعة تفوق قدرة الإنسان على الاستيعاب، يتسلل الذكاء الاصطناعي من شاشات الهواتف إلى منابر المساجد وقاعات الجامعات. لم يعد مجرد أداة تقنية، بل أصبح شريكًا خفيًا في صياغة خطابنا الديني والفكري. السؤال اليوم لم يعد هل نستخدم الذكاء الاصطناعي؟ بل- من يستخدم من؟ فكما يسعى العلم إلى فهم الكون، يسعى الدين إلى فهم موقع الإنسان فيه، وهنا يلتقي الطريقان في سؤال جوهري: هل سيظل الإنسان مستخلفًا في الأرض، أم سيُستعبد من قِبل خوارزميات صنعها بيده؟ النية والتكليف الشرعي: عائق أمام الواعظ الآلي حين بدأ بعض المساجد في آسيا تجربة “الخطيب الآلي”، أثار ذلك جدلاً واسعًا في الأوساط الفقهية. فالخُطبة ليست نصًا يُلقى فحسب، بل عبادة تقوم على النية والوعي والتكليف، وهي شروط لا يمكن لأي آلة تحقيقها مهما بلغت من الذكاء. الفقه الإسلامي يقرّ أن العبادات لا تصح إلا بوجود النية والإدراك، وهما جوهر الإنسان لا الآلة. فاستبدال الخطيب البشري بروبوت يقرأ من شاشة، قد يُسقط المعنى الروحي ويحوّل العبادة إلى أداء تقني بارد، يفتقد حرارة الإيمان والتفاعل الإنساني. لكن هذا لا يعني رفض التقنية كليةً. فالمقاصد الشرعية تقوم على التيسير لا التعسير. يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون معينًا للإنسان لا بديلاً عنه؛ كتطبيقات تُذكّر بالصلاة أو تساعد في تحليل النصوص القرآنية أو فهرسة الفتاوى، لكن تحت رقابة بشرية تحفظ المقصد الديني وتمنع الانزلاق إلى آلية بلا روح. تجارب عالمية- قبول ظاهري وتآكل روحي في اليابان، استُخدم روبوت يُدعى “ميندار” في معبد كوداي-جي لتقديم الخطب، ولاقت التجربة في بدايتها استحسانًا لغرابتها. لكن بعد أشهر، أظهرت دراسة ميدانية انخفاضًا واضحًا في الارتباط الروحي للمصلين المنتظمين، وكأن الآلة نجحت في إلقاء الخطبة وفشلت في لمس القلوب. وفي ألمانيا، أدى روبوت يُعرف باسم “BlessU-2” في كنيسة مدينة فيتنبرغ مهامّ البركة، لكنه أثار جدلاً لاهوتيًا حول معنى القداسة- هل يمكن للبركة أن تصدر من آلة لا تملك روحًا ولا نية؟ تُظهر هذه التجارب أن التقنية قد تُثير الفضول لكنها لا تخلق الإيمان، وتُبهر العقول لكنها لا تُحرّك الضمائر. الجامعات الأفريقية: بين الطموح والعجز الرقمي على الضفة الأخرى، تواجه الجامعات الأفريقية تحديًا أكثر عمقًا. ففي ظل ضعف الميزانيات وهشاشة البنية الرقمية، يبدو إدخال الذكاء الاصطناعي إلى التعليم العالي معركة مؤجلة. جامعة لاغوس في نيجيريا مثلًا، تعاني من نقص في معامل البحث والتجريب، بينما لا تزال أغلب الجامعات السودانية والإثيوبية في مرحلة رقمنة السجلات الأكاديمية. هذه الفجوة تجعل القارة مستهلكة للتقنية أكثر من كونها منتجة لها. وفي المقابل، بدأت جامعات عربية مثل جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية ومؤسسة قطر في دمج الذكاء الاصطناعي في البحوث الأكاديمية ضمن أطر أخلاقية واضحة، لتثبت أن التوازن ممكن حين تتوفر الرؤية والبنية معًا. نماذج دولية- الدين بين السيطرة والحرية تختلف الدول في تعاملها مع الذكاء الاصطناعي الديني باختلاف ثقافتها السياسية والفكرية: الصين تسعى لدمج التقنية في التراث الديني ضمن رقابة صارمة تضمن الولاء للدولة أكثر من العقيدة. الولايات المتحدة تُركز على أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في الدراسات اللاهوتية، وتحذر من “التلاعب بالروحانية” عبر المنصات الذكية. السعودية تعتبر الذكاء الاصطناعي وسيلة مباحة للدعوة، شريطة الرقابة البشرية المستمرة. الأزهر الشريف يستخدم التطبيقات الذكية لنشر الفتاوى مع مراعاة الفروق الثقافية بين المجتمعات. ماليزيا تطرح مفهوم “التوحيد الرقمي”من خلال تحليل بيانات الكون لترسيخ الايمان ، وكذلك الدعوة الرقمية ,حيث تعمل الدولة على توظيف التقنية لخدمة الدعوة في مجتمع متعدد الديانات. العبادة الجماعية- بين تعزيز المشاركة وتقويض الروابط في بعض المساجد الحديثة بماليزيا والإمارات، جُرّبت تطبيقات ذكية لتنظيم الصفوف وتتبع الحضور، واعتُبرت تجربة ناجحة في الإدارة، لكنها أثارت سؤالًا جديدًا< هل تُعزّز هذه التقنية روح الجماعة أم تُحوّل المصلين إلى بيانات تُقاس بالكاميرات؟ تُظهر بعض الدراسات أن الإفراط في الرقمنة يقلل من التواصل البشري المباشر، ويحوّل الطاعة الجماعية إلى نظام رقمي بارد، مما قد يضعف الأثر الروحي للمشاركة في العبادة. نحو إطار إنساني للتعامل مع الذكاء الاصطناعي المطلوب اليوم ليس محاربة التقنية، بل تأطيرها أخلاقيًا وروحيًا، عبر: إنشاء هيئات اعتماد رقمية تضم علماء الشريعة وخبراء الذكاء الاصطناعي. فرض رقابة بشرية على كل القرارات الدينية التي تعتمد على الخوارزميات. إجراء دراسات ميدانية لقياس الأثر الروحي والاجتماعي للتقنيات الجديدة. وضع سياسات وطنية تعزّز الهوية الثقافية وتحمي القيم المحلية. بين الاستخلاف والاستعباد الذكاء الاصطناعي ليس عدوًا للدين ولا خطرًا بذاته، بل هو مرآة تكشف طبيعة علاقتنا بالعلم والسلطة والروح. إن أخطر ما يمكن أن يحدث ليس أن يتكلم الروبوت في المسجد، بل أن يصمت الإنسان في حضرته. فالإنسان خُلق ليكون مستخلفًا، لا مبرمجًا، والآلة خُلقت لتخدمه لا لتقوده. التحدي الحقيقي هو أن نحافظ على وعينا ونحن نعبر هذا الجسر الخوارزمي نحو المستقبل. كما لخّص القرآن الغاية الأسمى- “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون.”
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
زهير ابو الزهراء
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست