*بين الكتاب والبندقية: إعادة التفكير في معنى الثورة من خلال عيون الجنرال البوركيني إبراهيم تراوري*
✍️ بقلم: الصادق حمدين - هولندا
مدخل تمهيدي
أحيانًا، لا تكون المشاهد الصاخبة هي الأكثر إزعاجًا، بل تلك اللحظات الهادئة التي تُربك قناعاتنا وتدفعنا لإعادة النظر فيما كنّا نظنه راسخًا، وفيما نعتقده من مسلمات أصبحت تسيطر على افكارنا وتشكل مصائرنا. فالسلاح لم يكن يوما من الأيام هو الحل لما نعانيه من أزمات معقدة، بل الوعي بالمظالم هو الطريق الأمثل لحلها والتعامل معها برقي وتحضر.
صعود نجم هذا الرجل ذو الهامة المرفوعة لم يبهرني فقط، بل تسلل إلى داخلي وأثار حزنًا غير متوقع على واقعنا البئيس. فرغم رفضي العميق للعسكر حين يصعدون إلى السلطة بانقلابات عسكرية تقمع إرادة الشعوب وحقهم الفطري في الديموقراطية والحرية والعدالة والمساواة، إلا أن شيئًا في حضور إبراهيم تراوري- في كلماته، وفي وقفته مع العدل والحق - أوقفني. والذي اثار اعجابي هي تلك الصروح التعليمية المشيدة على احدث طراز لا لجباية الرسوم من الفقراء والبائسين، بل لتكريس شعار مجانية التعليم، وكأنه يقول من اليوم فصاعدا لم تعد المعرفة حكرا على صحاب الارصدة والمتخمين.
عبارة “ثورة الكتب والسلاح” ظلت تتردد في ذهني، بل وتؤرقني. وكأن تراوري لا يخاطب شعب بوركينا فاسو وحده، بل ينادي أفريقيا بأكملها: هيا لنرفع الكتاب كما رفع غيرنا البندقية. لنعِ أن الثورة الحقيقية لا تبدأ من فوهة البندقية، بل من يقظة العقل. لا تبدأ بالدم، بل بالفكر. لا تنبع من العنف، بل من الرؤية.
الثورات التي تدوم، وتُحدث تحوّلات جذرية، ليست تلك التي تُروى بالدماء، بل التي تتجذر في الوعي. ليست ثورات النار، بل ثورات الفهم. ليست ثورات الخراب، بل ثورات البناء المعرفي.
هذه هي الثورة التي طالما حلمنا بها: ثورة صامتة، لكنها جذرية. ثورة لا تُبنى فقط على قيم الحداثة، بل تذهب إلى أبعد منها، وتطرح الأسئلة التي لم يجرؤ أحد على طرحها - ثورة فكرية ما بعد الحداثة، تفتح الأفق أمام نقدٍ عميقٍ للواقع والمفاهيم.
صحيح أن البندقية قد تُسقط نظامًا، لكن لا يمكنها أن تبني وطنًا.
أما الكتاب، فهو الذي يزرع الوعي، ويُنمّي الفكر، ويُرسي أسس مجتمع يؤمن بالكرامة والعدالة وقيمة الإنسان.
لقد رأينا ذلك من قبل. أممٌ نهضت بالعلم والمعرفة، لا بالقوة. تحررت من الجهل والتبعية، وشقت طريقها نحو التقدّم لا بالسلاح، بل بالفكر. واليوم، تقود هذه الأمم العالم، لا بسطوة السلاح، بل بحكمة العقول.
ولعل تراوري، بطريقته الخاصة، يُذكّرنا أن المعركة الحقيقية من أجل روح أفريقيا، لن تُحسم بالرصاص، بل بالكتب. ومهما كان صوت الرصاص صاخبا في بلادنا اليوم سيأتي يوما نحتكم فيه لصوت العقل والمعرفة لإعادة بناء وطن مزقته الأحقاد والحروب.
واليوم، وكأن الزمن يعيد نفسه، نرى إبراهيم تراوري، ذاك القائد العسكري الشاب، يقف في وجه العاصفة، يرفض الهيمنة الغربية بكل اشكالها، وتمظهراتها، يعلن بكل صراحة رفضه للخضوع والتبعية، يطرد القوات الأجنبية، ويخوض معركة شرسة ضد الإرهاب والفساد والواسطة والمحسوبية. رجل في مقتبل العمر، لكنه يحمل على كتفيه ثقل أمة بأكملها، وثقل حلم مؤجل منذ اغتيال توماس سانكارا.
ما بين سانكارا وتراوري، ليست هناك فقط علاقة دم ووطن، بل هناك خط نضالي متصل، مشروع سياسي متكامل، وذاكرة شعبية لا تنسى. فإن سقط واحد، يولد آخر. وإن اغتالوا الجسد، تبقى الفكرة.
تراوري لا يشبه سانكارا في الشكل فقط، بل في الموقف، في الفكرة، في الجرأة. وهو يدرك، كما ندرك جميعًا، أن الموت يتربص به من كل زاوية، لا لأنه خائن، بل لأنه قال “لا” في وجه من اعتادوا سماع “نعم”. لأنه تجرأ أن يسير على خطى سانكارا دون خوف، رغم أن التاريخ أثبت أن السير في هذا الطريق محفوف بالدم.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة