في كل مرة نسمع فيها عبارة “دولة ٥٦”، نتنهد كما لو كنا نسترجع لحظة الميلاد الأولى لوطنٍ لم يولد كاملًا. هي الدولة التي خرجت من رحم الاستعمار بلا قابلةٍ وطنية، ومنحتها بريطانيا علمًا وأناشيد، لكنها سلبتها الوعي والبوصلة. فصارت دولةً تائهة بين ثلاثة آباء: العسكر، والطائفية، والقبلية — وكلٌّ منهم ادّعى البنوة الشرعية.
أخطأ مؤسسو ٥٦ حين ظنّوا أن الاستقلال هو رفع العلم فقط، لا بناء الإنسان. كانوا مثقفين نبلاء، لكنهم أسرى زمنٍ لم يفهموا تغيّره: ظنّ إسماعيل الأزهري أن الخلافات تُحلّ بالشاي والكرم، واعتقد محمد أحمد محجوب أن الشعر يكفي لصناعة دولة، وحسب عبد الرحمن المهدي أن الزعامة الدينية يمكن أن تُنتج مؤسسات حديثة. تلك كانت دولة النوايا الطيبة بلا أدوات. وحين جاء العسكر، ورثوا الطهارة فحوّلوها إلى غطرسة. فمات المشروع الوطني في مهده، وتحوّل السودان إلى معملٍ تجارب للانقلابات والعقائد.
اليوم، وبعد سبعين عامًا، يكتب ما تبقّى من حملة ذاكرة تلك الدولة — في المنافي، في العواصم الباردة، في مقاهي الاغتراب — عن “الزمن الجميل”، كأنّهم يعزون أنفسهم على وطنٍ لم يُدفن بعد. يتحدثون عن أزهريٍ يزور نادلًا في بيته، ووزيرٍ يُعيد طبلة الجراج، ورئيسٍ يخشى أن يمنعه الخفير من دخول المستشفى. تلك كانت أخلاق جيلٍ آمن أن السلطة خدمة، لا ترف.
لكن خلف تلك الحكايات العذبة تختبئ رومانسية العجز؛ فالذين صنعوا التاريخ لم يكتبوا دستورًا يصونه، والذين بكوه اليوم يكتبون ذكرياتٍ لا مشاريع.
ولا يزال من تبقّى منها اليوم من بقايا أبنائها و بناتها يكتب عنها بحنينٍ رومانسي، في انتظار الرحلة الأخيرة إلى مقابر النزوح والهجرة.
في ذات العقود التي كانت فيها الخرطوم تتنازع بين الطائفية والعسكر، كانت الصين الخارجة من ثورتها الثقافية تمسح دماءها وتبدأ البناء. التعليم أولًا، والانضباط قبل الشعارات، والمؤسسة قبل الفرد. في ثلاثين عامًا فقط صعدت الصين من الجوع إلى القمر، وفي سبعين عامًا هبط السودان من القصر إلى الخيمة.. اكتب كشاهد زار الصين مرات عديد بين ١٩٩٣ الي ٢٠.٦
لم تفشل دولة ٥٦ لأنها بلا وطنيين، بل لأنها بلا رؤية وبلا جهاز عصبي يقودها نحو المستقبل. ولذلك لا لم نكتب في تحالف التاسيس على الأطلال، بل كتبنا دستورًا للحياة القادمة — دستور السودان التأسيسي: حيث يُبنى الحكم على المواطنة، والجيش على القومية، والثقافة على الحرية.و التقدم علي حبر المساواة و عدم التهميش
ولمن يتجرع الخوف و الشك نقول بان قادة التاسيس خرجوا من رحم البلد المتنوع و هم يمدون اياديهم لرفقه الآخرون بدون تعصب لعرق او دين او جهة .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة