اندلعت ثورة 21 أكتوبر 1964 بينما كان الدكتور كليف تومسون يقضي عامه الرابع في السودان كمحاضر مبتدئ بقانون جامعة الخرطوم. وقد صار فيما بعد عميداً لكلية القانون بجامعة ولاية وسيكنسون الأمريكية بمدينة ماديسون، ومديراً لمعهد الدراسات الأفريقية بها. وكانت تلك ستينات القرن الماضي التي تميزت بحركة غير عادية لتغيير العالم كما عرفناه. كان الاحتجاج هو العادة والسكون هو النشاز. ووجد كليف، الفتى الأمريكي (وكانت بلاده وجامعاتها أكبر بؤر الدعوة لتجديد شباب العالم)، نفسه في طيات تلك الثورة وخفاياها. فسهر يدون يومياته عنها ثم تعقب قادة الثورة وروادها في السنوات المباشرة اللاحقة يسألهم عن أدوارهم فيها. وتوفرت له مادة كثيفة طازجة ظل يكتب بفضلها تاريخ تلك الثورة حتى فرغ منها قبل سنتين أو نحوها. وقد قيض لي الحظ الحسن أن أتعرف عليه قبل فراغه من الكتاب وكلمته عن رغبتي، والدكتور بدر الدين الهاشمي، في ترجمة المخطوطة في العربية وتحريرها. وأَذِن بذلك بسخاء منوهاً بأن السودانيين أحق الناس بالاطلاع على إرث أكتوبر قبل غيرهم.
ويبدو أن الذي بين كليف وثورة أكتوبر مما لا يستنفده مداد كلمات كتاب. فقد فوجئت برسالة منه منذ عام أو أقل تحدثني عن نيته تدريس كورس عن ثورة أكتوبر والقانون لطلاب القانون والدراسات الأفريقية بجامعة ويسكنسن. وهذا الكورس منعقد على وقتنا هذا من خريف 2006 بقاعات الجامعة. ويؤمه 32 طالباً. وقد بعث لي كليف بكلمة أخيرة كشفت لي عن تعلقه المهني قبل السياسي بثورتنا. فقال إن جامعة ماديسون ظلت تفخر بمنزلة الدراسات القانونية فيها بما دربت من قانونيين بارزين وعديدين. وقد تميزت بتغليب القانون كممارسة نحو تحقيق العدل لا كمادة أكاديمية فقهية بين طيات الكتب. وترتيباً على ذلك فإن ثورة اكتوبر السودانية هي غاية الغايات لجامعة مطلبها من القانون تنزيل العدالة على الأرض.
وأطلعني كليف على ديباجة كورسه عن ثورة أكتوبر الذي انطوى على فكرة أن العلم بثورة أكتوبر باب في إحسان الأكاديمية وتوطينها في المجتمع، لا لجاجاً سياسياً تتربص به المعارضة لشقلبة الحكومة والبادي أظلم. وهذا ابتذال للثورة مشهود عندنا. فالمعارضة تهدد الحكومة ب "رياح أكتوبر التي تتجمع في الأفق". والحكومة تنكر ثلاثاُ أن ثورة مثل أكتوبر قد حدثت أصلاً. فيصمت مذياعها، وينضب تلفزيونها، وتبتلع عطلة اليوم المشهود (السخية بالبطالات) وتعف عن الإبرة. ويبلغ الجهل بالثورة حداً قال طالب نابه يوماً لمحرر بصحيفة أن أكتوبر شيء رائع حدث في الغناء والنشيد. وكفى.
وإلى القارئ ترجمة في العربية لديباجة كورس كليف لطلابه الاثنين وثلاثين في مادة القانون الأفريقي عن ثورة أكتوبر السودانية بجامعة ويسكنسن:
"انتهى حكم بريطانيا للسودان في يناير 1956. غير أن الاستقلال لم يسعد السودانيين. فقد وصف ج ت روبرتسون (السكرتير الإداري الاستعماري السابق بالسودان) السودان المستقل ب "تلك البلاد التعيسة". استحكمت فيه حرب أهلية بين الشمال والجنوب. وأنجزت من قريب حكومته استئصالاً عرقياً في دارفور. وساد البلاد حكم الجيش وضمر حكم النظم الديمقراطية.
وشهدت البلاد مع ذلك هبات مثل ثورة أكتوبر 1964 انقدحت منها شرارة الديمقراطية وفاح مسكها. وكانت ثورة أكتوبر هبة وطنية قام بها مواطنون مدنيون عُزل صمموا على إسقاط نظام عسكري طغى وبغى ونجحوا في اقتلاعه. ولم تدم الديمقراطية المستعادة بالثورة سوى سنوات قليلة فعاد الحكم للعسكريين في 1969. ولم يزد ذلك السودانيين غير عزة بالثورة فهي مصدر فخر لمن شاركوا فيها، ورأي فيها الجيل الحدث بارقة أمل يأوون إليها في الملمات. كما رأى فيها غير السودانيين سبباً للاعتقاد بحق الشعوب في أن تقرر لنفسها وبنفسها صورة الحكم الذي تريده لبلدها تخطيء وتصيب.
المقرر الرئيس للكورس هو مسودة كتابي عن ثورة اكتوبر. وفيه قصصت انتفاضة السودانيين في 1964 ووقفت على حيثيات النبض الوطني الذي استولدها وبث فيها حياة وأنفساً شجاعة صميمة. فأكتوبر قصة إنسانية غراء تستحق أن تروى على الملأ لازدحامها بمشاهد من الشجاعة المثيرة غير المتوقعة. وكان أكثر قادتها من القانونيين طلاباً وأساتذة ومحامين وقضاة.
عند اندلاع الثورة كنت في سنتي الرابعة بالسودان احاضر في القانون بجامعة الخرطوم وأدير مشروعاً وثقنا به للقضايا بمحاكم السودان. وقد وصفت في المخطوطة أحداث الثورة وضمنت وصفي ملحوظاتي من واقع معايشة مباشرة للأحداث وزخمها. ولكن الكتاب انبنى بصورة رئيسة على مقابلاتي للقادة الأعلام للثورة وغيرهم من المدنيين والعسكريين وأحاديثي المطولة معهم. فقد تحدثت إلى 68 قائداً ونفراً من هؤلاء والذاكرة خضراء بين 1964 و1976. واستثني من هؤلاء شخصين تحدثت إليهم فيما بعد. كنت مشغولاً لأعرف خفايا أحداث الثورة لأقف على خطرها وديناميكيتها ومغزاها للمجتمع السوداني.
واستغرقني النظر في مادة لقاءاتي وبحثي وكتابة الفصول وقت طويل قبل اكمال كتابة المخطوطة. ولم أتفرغ للكتابة، بل فعلت ذلك في أوقات الفراغ الخاصة. وأصبحت الكتابة عن أكتوبر بين 1971 و2003 هوايتي المفضلة. وأردت بحكايتي عن أكتوبر الثورة أن يستشعر القارئ أنني أتحدث من طيات الحدث حتى يتاح له أن يفهم الحقائق المتغيرة، والفوضوية حتى، التي كمنت من وراء مسميات مثل "جبهة الهيئات" و"مذبحة القصر" و"الميثاق الوطني" مثلاً لا حصراً.
وفي عام 2004 كتب لي أستاذ بجامعة ميسوري-كولمبيا من العالمين باهتماماتي السودانية (وهو العبد الفقير) إذا كان انشغالي بالأمر قد شمل مولانا عبد المجيد إمام.. فزودته بما أراد. ونشر الأستاذ الجزء الخاص بعبد المجيد إمام من مخطوطتي بصحف السودان السيارة. ويقوم هذا الأستاذ الآن بترجمة المخطوطة في العربية لنشرها (الذي يقوم بالترجمة هو الدكتور بدر الدين الهاشمي وإنما أشرف على المشروع وأحرره وأروج له ما استطعت سبيلاً).
أما عن سير الدراسة في الكورس فسيجتمع الفصل ساعتين أسبوعياً (ويمكن أن نمدد ذلك لثلاث ساعات). ولأنني لم أستقر بعد على خطة لنشر الكتاب في لغته الإنجليزية فإنني اتوقع من طلابي أن يعينوني لاستقر على شيء بقراءة المخطوطة قراءة حصيفة. فسأوفر لكل طالب نسخة من المخطوطة. وسأقرر للقراءة فصلاً في كل أسبوع. وسأطلب من كل منكم أن يعيد الفصل في نهاية الأسبوع وعلى هامشه تعليقاتكم. وسنحلل ما وقع من حوادث في الفصل المقرر في نقاشنا ونحدس بناء على ذلك ما سيقع من حوادث في فصلنا القادم. وسيكون الامتحان مما نأذن فيه باصطحاب المخطوطة إلى غرفة الاختبار والرجوع إليها في الإجابة. وسأقرر إن كنت سأطلب منكم كتابة مشروع بحثي متى اجتمعنا في الفصل."
هذه ديباجة هذا الكورس الذي وصفه صاحبه نفسه بأنه "غير عادي" والذي سجل لدراسته 32 طالباً أمريكياً. وهو عدد غير عادي للكورسات المتقدمة في الجامعة، وبالنسبة لطلاب القانون الذين هم طلاب دراسات عليا قليل عددهم. وسيفرغون منه قبل حلول موسم أعياد أمريكا في منتصف ديسمبر. وقد كتبت لكليف ليشرك القارئ السوداني في معرفة خبرته في تدريس هذه المأثرة السودانية لطلاب في أمريكا تنام على محنة دارفور وغير دارفور وتصحو.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة