لم تعد الرقمنة اليوم ترفًا فكريًا أو تزيينًا لغويًا في خطابات المسؤولين، بل غدت شرطًا من شروط البقاء في عالمٍ تتسارع فيه التقنية كما تتسارع نبضات الزمن. فالدول لا تنهض بمواردها فقط، بل بما تمتلكه من وعي رقمي يجعلها تختصر المسافات بين الفكرة والتنفيذ، وبين المواطن والدولة.
أما نحن في السودان، فما زلنا نحاول أن نرى في ضباب الأزمات ملامح تحولٍ رقميٍّ طال انتظاره… مشروع ظل حبيس الشعارات، ولم يتحول بعد إلى فعلٍ مؤسسي واضح المعالم.
التحول الرقمي… مشروع وعي قبل أن يكون تقنية
التحول الرقمي ليس مجرد تطبيقات على الهواتف أو مواقع إلكترونية حكومية، بل هو نقلة ذهنية وثقافية.
إنه انتقال من عقلية الورق والطابع والختم إلى فضاء البيانات المفتوحة، ومن ثقافة المركزية إلى روح المشاركة والشفافية.
حين تدرك الدولة أن الرقمنة ليست “مشروعًا تقنيًا” بل “مشروع وعي”، تبدأ أولى خطواتها الحقيقية نحو المستقبل.
1. الإرادة السياسية أولًا
لا يتحقق أي تحول وطني دون إرادة سياسية صادقة تضعه في صدارة الأولويات.
فالتحول الرقمي لا يحتاج إلى لجان مؤقتة أو خطابات حماسية، بل إلى قرارٍ شجاع يتجاوز البيروقراطية ويواجه مقاومة التغيير داخل مؤسسات الدولة.
الإدارة التي لا تؤمن بالتغيير ستظل تكرر الماضي في قوالب جديدة.
2. بناء البنية التحتية الرقمية
لا يمكن أن تنمو الرقمنة على أرضٍ متهالكة.
نحتاج إلى شبكة إنترنت قوية، وكهرباء مستقرة، ومراكز بيانات وطنية تحفظ سيادتنا الرقمية.
فالتحول يبدأ من الأساس: من الكابل لا من المكتب، ومن السيرفر لا من اللافتة.
3. الحكومة الإلكترونية… المواطن أولًا
المواطن هو محور التحول الرقمي، وليس المتفرج عليه.
رقمنة الخدمات الحكومية — من استخراج الوثائق ودفع الرسوم وحتى التراخيص — ليست رفاهية، بل حق أساسي يختصر الوقت والجهد ويعيد الثقة بين الدولة والمواطن.
حين يشعر المواطن أن الدولة تخدمه لا تُرهقه، تبدأ النهضة الحقيقية.
4. التعليم والتدريب… بناء العقول قبل الأجهزة
لن تنجح الرقمنة في مجتمعٍ تجهل فيه الكوادر التعامل مع أبسط الأنظمة الإلكترونية.
يجب أن يبدأ التحول من المدارس والجامعات، وأن تُزرع في الطلاب ثقافة الابتكار والتفكير الرقمي، إلى جانب تدريب العاملين في القطاع العام على المهارات الحديثة.
فالرقمنة ليست أجهزة تُشترى، بل عقول تُعدّ.
5. القوانين والأمن السيبراني
من دون تشريعات حديثة، تصبح الرقمنة فوضى إلكترونية.
نحتاج إلى قوانين تنظم التوقيع الرقمي، وتحمي الخصوصية، وتكافح الجرائم الإلكترونية، إضافة إلى منظومة أمن سيبراني وطنية تحافظ على سيادتنا في فضاء الإنترنت.
الرقمنة طريق النهضة
التحول الرقمي في السودان ليس حلمًا بعيدًا، بل ضرورة وجودية لإنقاذ مؤسسات الدولة من البيروقراطية والعجز.
هو مشروع وطني جامع يمكن أن يوحد الجهود بدلاً من تشتتها، ويفتح للشباب آفاق العمل والإبداع، ويعيد للدولة هيبتها عبر الكفاءة والشفافية.
لقد آن الأوان أن نخرج من طور الكلام إلى الفعل، ومن التنظير إلى التطبيق.
فالرقمنة ليست مجرد تقنية… إنها عقيدة جديدة في إدارة الدولة، من يؤمن بها يتقدم، ومن يتردد يتلاشى في ذيل الزمن.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة