صحفي مستقل يشهد السودان منذ سنوات أزمة اجتماعية عميقة تداخلت فيها السياسة بالاقتصاد والثقافة والهوية، حتى أصبح رتق النسيج الاجتماعي ضرورة وطنية ملحّة وليست مجرد شعار سياسي أو مبادرة مجتمعية. فالحروب الأهلية، والانقسامات القبلية، والصراعات الجهوية، والاضطرابات السياسية المتكررة، كلها أسهمت في تمزيق وحدة المجتمع السوداني، وتهديد تماسكه التاريخي الذي ظلّ لعقود مضرب المثل في التعايش والتنوع. تعود جذور أزمة النسيج الاجتماعي في السودان إلى فترات ما قبل الاستقلال، حين لم تنجح الدولة الوطنية في بناء عقد اجتماعي شامل يجمع بين المكونات الإثنية والدينية والثقافية المتعددة. ومع مرور الزمن، تكرّست الفوارق الجهوية والقبلية نتيجة لسياسات التنمية غير المتوازنة، والإقصاء السياسي، والتهميش الاقتصادي. زاد من عمق الأزمة اندلاع الحروب الأهلية في جنوب البلاد منذ ستينيات القرن الماضي، والتي انتهت بانفصال الجنوب عام 2011، لتتجدد النزاعات في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، مسببة نزوحًا واسعًا وتمزقًا نسيجيًا في بنية المجتمع. ولم تقف آثار التمزق عند حدود الجغرافيا فحسب، بل طالت الثقة بين المكونات الاجتماعية نفسها، حيث تسللت الكراهية والشكوك إلى العلاقات بين القبائل والمناطق المختلفة. أصبح الانتماء المحلي أو القبلي في كثير من الأحيان يتقدم على الانتماء الوطني، وهو ما جعل مهمة إعادة اللحمة الاجتماعية أكثر صعوبة. منذ اندلاع الحرب بين القوات المسلحة السودانية ومليشيات الدعم السريع في أبريل 2023، دخل السودان مرحلة جديدة من التفكك الاجتماعي والإنساني. فقد تسببت الحرب في أكبر موجة نزوح داخلي وخارجي في تاريخ البلاد، إذ تجاوز عدد النازحين 10 ملايين شخص، بحسب تقارير الأمم المتحدة. هذا النزوح الضخم أعاد إنتاج الانقسامات على نطاق أوسع، حيث لجأ الملايين إلى مناطق لم يألفوها، وواجهوا تحديات التعايش مع مجتمعات مختلفة ثقافيًا واقتصاديًا. كما تفككت الكثير من الروابط الأسرية والمجتمعية بسبب التهجير القسري، وتدهورت منظومات القيم التضامنية التي كانت تميز المجتمع السوداني. ورغم مظاهر التعاضد الشعبي الواسعة في استقبال النازحين وتقديم الدعم الإنساني، إلا أن هشاشة الوضع الاقتصادي والسياسي تجعل هذا التضامن عرضة للتآكل. ومع كل يوم يستمر فيه القتال، تتسع الفجوة بين مكونات المجتمع وتضعف فرص إعادة الثقة والتعايش. من أبرز التحديات التي تواجه عملية رتق النسيج الاجتماعي في السودان ضعف الدولة ومؤسساتها، إذ أن غياب سلطة مركزية قادرة على بسط الأمن وتطبيق العدالة يعقّد أي محاولة لبناء الثقة بين المواطنين. كما أن الوضع الاقتصادي المنهار، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، يعمّقان الإحباط ويزيدان من احتمالات الاحتكاك بين المجتمعات المحلية. إلى ذلك، يواجه السودان مشكلة في إدارة التنوع الثقافي، حيث لم تنجح الأنظمة المتعاقبة في صياغة مشروع وطني جامع يعترف بالتعدد ويحوّله إلى مصدر قوة بدل أن يكون عامل ضعف. يضاف إلى ذلك انتشار السلاح خارج نطاق الدولة، وضعف مؤسسات العدالة الانتقالية، وتنامي الخطابات المتطرفة التي تستثمر في الخوف والانقسام. هذه العوامل تجعل من عملية ترميم النسيج الاجتماعي مهمة شاقة تتطلب تضافر جهود الدولة والمجتمع معًا. على الرغم من قتامة المشهد، إلا أن السودان يمتلك من المقومات ما يجعله قادرًا على استعادة عافيته الاجتماعية. فالتجارب التاريخية للشعب السوداني تُظهر مرونة عالية في مواجهة الأزمات، وقدرته على التعايش بين مكوناته المختلفة. لتحقيق ذلك، يجب أن تنطلق عملية رتق النسيج الاجتماعي من مشروع وطني شامل يقوم على مبادئ العدالة والمواطنة المتساوية، ويستند إلى حوار صادق يشارك فيه الجميع دون إقصاء. كما ينبغي إعادة الاعتبار لمؤسسات التعليم والإعلام والثقافة لتكون أدوات لغرس قيم التسامح والمواطنة. ولا يمكن تحقيق المصالحة المجتمعية دون معالجة جذور المظالم التاريخية، وضمان العدالة الانتقالية وجبر الضرر للضحايا، بما يفتح صفحة جديدة قائمة على الثقة والإنصاف. إن رتق النسيج الاجتماعي في السودان ليس مجرد مهمة إنسانية أو أخلاقية، بل هو شرط أساسي لبقاء الدولة نفسها. فبدون مجتمع متماسك ومتسامح، لن يكون هناك سلام دائم ولا تنمية ممكنة. الطريق طويل وصعب، لكن الإرادة الشعبية السودانية، كما أثبتت في محطات كثيرة، قادرة على تحويل الألم إلى أمل، والشتات إلى وحدة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة