يبدو أن شرم الشيخ لم تكن مجرد محطة لمناقشة غزة فقط هذه المرة، بل كانت نقطة التحول في مسار أزمة السودان. في الكواليس، وبين الأحاديث الجانبية، عاد الملف السوداني إلى الواجهة بعد أن ظلّ عالقًا في دهاليز الإهمال الدولي. واشنطن، قررت الآن أن تتحرك بجدية، ولكن عبر البوابة المصرية. ففي قمة شرم الشيخ الأخيرة، حصل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على الضوء الأخضر الأمريكي للعب دور الوسيط الإقليمي في أزمة السودان. وبعد يومين فقط من القمة، كانت الطائرة التي تقل الفريق أول عبد الفتاح البرهان تهبط في القاهرة بدعوة عاجلة من الرئاسة المصرية. الزيارة لم تكن بروتوكولية، بل كانت بداية لتغيير في مشهد الأزمة التي طالت أكثر مما يحتمل الوطن المنهك. بيان الرئاسة المصرية بعد اللقاء كان واضحًا في لغته، فقد أشار إلى "أهمية الآلية الرباعية كمظلة للسعي لتسوية الأزمة السودانية ووقف الحرب وتحقيق الاستقرار المطلوب، مع التطلع إلى أن يسفر اجتماع الآلية الرباعية الذي سوف يعقد في واشنطن خلال شهر أكتوبر الجاري عن نتائج ملموسة." بعبارة أخرى، البرهان وافق ضمنيًا على العودة إلى مسار الرباعية الدولية التي سبق أن رفضتها حكومة بورسودان، وبهذا يكون قد قدّم تنازلاً محسوبًا تمهيدًا لتفاهمات أوسع تحت الرعاية الأمريكية. لكن ما جعل المشهد أكثر إثارة هو أن زيارة البرهان تزامنت مع وصول الدكتور عبد الله حمدوك إلى القاهرة أيضًا، وسط أنباء عن لقاء وشيك يجمع الطرفين بحضور وسطاء دوليين. هذا التطور، إن حدث، سيكون أول كسرٍ للجليد بين الرجلين منذ اندلاع الحرب، وقد يفتح الباب أمام تسوية سياسية تُعيد ترتيب الأوراق من جديد. واشنطن بحسب مصادر متعددة تتحرك الآن بقوة في ملف السودان ليس فقط لوقف الحرب، بل أيضًا لتقييد تمدد الإسلاميين الذين يحاولون العودة إلى المشهد عبر حكومة بورسودان. ويبدو أن القاهرة تلعب هنا دورًا مزدوجًا: فهي من جهة تُقدّم نفسها كوسيطٍ موثوق، ومن جهة أخرى تنسّق مع الأمريكيين لإبعاد التيار الإسلامي عن أي معادلة مستقبلية في الحكم ومن جهة تحاول الحفاظ على مصالحها. وفي هذا السياق، برزت تصريحات مثيرة في الإعلام المصري، خصوصًا على لسان الإعلامي أحمد موسى في برنامجه "على مسؤوليتي"، الذي قال بوضوح: “الجيش السوداني استطاع أن ينتصر عسكريًا على الدعم السريع، لكنه لن ينتصر سياسيًا إلا إذا تخلّص من الإسلاميين وتحالف مع قوى التقدم، فمفتاح العلاقات الخارجية لقبول الجيش وسط المجتمع الدولي بيد حمدوك ومجموعته التقدمية.” تلك الرسالة لم تكن مجرد رأي إعلامي، بل بدت أقرب إلى إشارة استخباراتية مبطّنة من القاهرة للبرهان: إذا أردت شرعية سياسية ودعمًا دوليًا، فعليك أولًا أن تُبعد الإسلاميين عن المشهد وأن تُظهر انفتاحًا على حمدوك وتياره المدني. لقاء القاهرة أيضًا تطرّق إلى ملفات أخرى ذات طابع استراتيجي مثل قضية مياه النيل والعلاقات الثنائية، لكن جوهر الاجتماع كان سودانيًا بامتياز. فالقاهرة تدرك أن استقرار السودان هو أمن قومي مصري، وأن استمرار الحرب يعني بقاء حدودها الجنوبية مفتوحة على الفوضى، وهو ما لا يمكن احتماله طويلًا. وفي الوقت الذي يهاجم فيه الكيزان أي تقارب بين البرهان وحمدوك، تخرج أبواقهم الإعلامية مثل عائشة الماجد لتشن حملة تحريضٍ وتخوين ضد أي محاولة لإحياء مسار السلام. غير أن الحقيقة الواضحة هي أن هؤلاء لا يريدون سلامًا، بل استمرار الفوضى التي يعيشون عليها. التحركات الأخيرة توحي بأن الولايات المتحدة قررت استعادة زمام المبادرة، وأن القاهرة أصبحت بوابة العبور نحو تسوية جديدة قد تعيد رسم المشهد السياسي في السودان. فما بين واشنطن والقاهرة، يُعاد ترتيب الأوراق في هدوء... لكن السؤال الذي سيظل معلّقًا: هل يسير البرهان فعلاً نحو سلامٍ حقيقي، أم أنه يشتري الوقت بلعبة التوازن بين القوى؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة