|
ولماذا نكتب ؟ كتبه حسن إبراهيم حسن الأفندي
|
11:46 AM October, 15 2025 سودانيز اون لاين حسن الأفندي-السعودية مكتبتى رابط مختصر
مجرد سؤال ؟ ربما كان بريئا وربما كان وراؤه خبث بعيد , ولكنه على كل حال يلح علي فى صبح ويمسى ! ولست يافعا غريرا حتى يقول لي من يقول عن إجابة مسهبة أو مقتضبة عن الكتابة , محاولا إقناعي بفوائدها وكلام إنشائي طويل لا طائل منه على أرض الواقع , وحقيقة لمن نكتب وكل من حولنا كتاب لهم أسماؤهم وسمعتهم التي تطوي الآفاق وتفوق ما لنا من شهرة واسم , كانت لهم القدرة ومقومات الكتابة أو لم تكن , المهم خفة دم فى غير جدية ولا مسئولية ولا تقدير للأمور , اقتحم وكفى وستجد من يطبلون لك ويسبحون بحمدك كاتبا عبقريا ومفكرا كبيرا , الإقدام كل مقوماتهم بغض النظر عن قدراتهم . هنـاك مـثل ســـيرلانكي يقول : من يفكر كثيرا لا يستطيع أن يعـبر نهـــرا ولـو عـلى جسر (Those who think very much , can not cross a river even on a bridge) ومشكلتي أننى من هؤلاء ! والكتابة دافعها عدة أسباب , أهمها : أن تنقل لغيرك وجهة نظرك وآراءك فى شتى الموضوعات والمواقف , ولكن ماذا يحدث إذا كان القارئ غير متجاوب مع ما تكتب وربما الكثيرون غير مستعدين لقراءة موضوعات جادة , ومن القراء من يقرأ ولا يستطيع أن يصل إلى أغوار ما ترمي إليه! قرأ أحدهم فصولا نشرت لى بمجلة الأزمنة العربية من كتابي( ليالي الاغتراب بالتراي ستار) وسألني : لماذا تسرح بنا كثيرا وتبدأ فكرة ثم تعرج إلى أخرى وإلى معلومات حتى نكاد ننسى الفكرة التى تود عرضها , ثم تعود إليها ثانية لتواصل الحديث عنها ؟ أجبته أن عنوان الكتاب يحمل تعليل ذلك وتفسيره , فالتراي ستار طائرة سريعة تتعدد أمام ناظريك منها المناظر وتتبدل بما يتناسب طرديا مع سرعة الطائرة ( وهذا تأثير علم الرياضيات على أسلوبى تناسب طردي وعكسي ولمن لا يعرف فأنا معلم رياضيات درجة أولى ) وهذا التناسب الطردي ينعكس على كتابتي , بل يجب أن تكون كتابتي على هذا الضرب تماشيا مع العنوان , ولعـل قـارئي يلاحظ أن الفصول التي نشـرت لى مؤخـرا من كـتابي ( وتبقى الذكريات ) ركـزت فقط على ذكريات بينها رابط عضوي لا يبتعد عن الفكرة التى يتناولها الفصل . وليالي الاغتراب كتبت تروي معايشة واقعية ومعاناة وعناء وتعب وهموم البعد عن الوطن والأهل والأقارب والمعارف والأصدقاء وزملاء الطفولة والصبا والشباب , وتترجم قرارا اتخذته بكتابة كل شيء عني (هشام) لمن ضيعت من حب قديم , فكانت السيرة الذاتية لابد أن تحمل وتحوي سيرتي الذاتية بتفاصيلها, بدايات ومسارات وتحصيل علمي ومعارف وعلاقات متنوعة وثقافة وإنتاج شعري وآراء ونظرات فى مختلف مناحي الحياة والفكر وكافة جوانب المعايشة السوية لمثقف حاول جاهدا أن يغرق همومه وآلامه بين صفحات الكتب المتعددة الموضوعات والجوانب , ولإتاحة مساحة أرحب للكتابة , اخترت أن تكون على متن طائرة من نفس الطراز الذى غادرت به السودان لأول مرة مهاجرا . ولعلي أخطأت عندما لم أكتب فى ذيل أو حاشية كل فصل ملحوظة تشير إلى موقعه من مؤلفاتي حتى يستطيع القارئ الذكي من أن يسبر جميع جوانب الفصول أو المقالات , علما بأن هناك بعض الفصول آثرت ألا أنشرها فى الوقت الراهن , إما لأني لا أريد أن أرهق القارئ بمعاناة وآلام هو فى غنى عنها , أو لأنها ذات صلة بأعزاء علي وربما لا يوافقون على نشر ما يخصهم من معلومات مشتركة بيننا . عموما تعليق القارئ وملاحظته كانت محبطة لى بعض الشيء . ومن دواعي الكتابة الجانب التعليمي الإثرائي , ولكن ترى ما هي نسبة الذين يريدون إثراء لمعلوماتهم وثقافتهم العامة أو التخصصية فى عصر السماويات التى تأخذ بكل أسف وقت الكثيرين متابعة لأغان وموسيقى صاخبة وأفلام فاضحة , فأي وقت لهم ليعرفوا عن علم وعن سيرة وعن تفسير وعن فلسفة وعن تربية وعن أمور ومواضيع تتسم بالجدية والفائدة ؟ إنها لا شك نسبة ضئيلة ونادرة . نكتب كثيرا للدفاع عن الحقيقة ودحض المفاهيم الخاطئة , فأين يا ترى الحقيقة الآن فى عالم يتحكم فيه قطب واحد يفرض منطق الغاب والقوة لا العقل والحوار , يأتينا كل صباح بقرارات حددها ولابد من تنفيذها تجري علينا كالقدر ولو تعلقنا بأستار الكعبة ! ضرب العراق الشقيق بحجة أسلحة الدمار الشامل , فما كان ولم يكن منها شيء , وقيل إن دكتاتورية الحاكم خلفت مقابر جماعية يستحق أن يزاح من أجلها , ومن عجب أن تلك المقابر الجماعية فى جنوب العراق أو فى حلبجة فى الغالب ليست من صنع النظام البائد وإنما لجهات أخرى اليد الآثمة فيها , ولا أريد أن أدخل فى تفاصيل تروى فى كثير من الصحف والمجلات , والغريب فى الأمر أن نفس تلك الأيادي الآثمة استغلت واشترت ذمم ضعاف النفوس لتحقيق سياساتها ومآربها , مستغلة تطلعهم المحموم للسلطة والحكم . بل لماذا سكتت هذه القوى عما يجري بالعراق وهو ليس وليد اليوم ولا الأمس حتى التاسع من أبريل 2003 ؟ أعلم أن كتابتي لن تجد أذنا صاغية ولا إنصافا محايدا ,خصوصا أننى أكتب لا دفاعا عن صدام ولا أركان حكمه , فما تربطني بهم سوى عروبتي وإسلامي , فكيف يتسنى لنا إذن إظهار الحقيقة ودحض الباطل ؟ الآن تحاك المؤامرات الدولية ضد السودان القطر العربي المسلم ومما يحيرني أن البعض يكتبون عن الموضوع بصورة غير جادة ولا صادقة وتفتقر إلى المصداقية . منذ أن كنا أطفالا ونحن نسمع عن مناوشات فى دارفور بين قبيلة عربية وأخرى عربية وبين قبيلة عربية وأخرى من أصول زنجية وبين قبيلة من أصول زنجية وأخرى مماثلة لها , والأسباب تعود لا للتطهير العرقى وإنما لخلاف على كلأ أو ماء , فالقبائل هناك إما رعوية لثروة حيوانية ضخمة معروفة أو قبائل زراعية , وتحل المشاجرات بالطرق التقليدية والوساطات والأجاويد بين القبائل وربما برعاية حكومية , فلماذا تصعد مثل هذه المشاكل فى الوقت الراهن ؟ الجواب بسيط جدا يتلخص فى أن السودان يرقد الآن على بحيرات بترولية يسيل لها لعاب أمريكا وله إنتاج فى مجال الذهب والمعادن بجانب ما كان لـه من زراعة وثروة حيـوانية وماء النيـل العظيم , وقد أدى تسويق البترول إلى طفرة كبرى فى المسيرة الحضارية المتقدمة التى يشهدها السودان الآن خاصة فى العامين الأخيرين , ظهرت فى البنية التحتية من شوارع داخلية بالمدن طولية وعرضية و طرق سريعة وجسور وكهرباء وأسواق مركزية ومنشآت صناعية وتحديث لوجه الخرطوم الذى عاد مشرقا منيرا وضاء , وذلك أمر غير مقبول من قوى الشر والتآمر العالمي, وكلي يقين أن السودان لو استمر على هذا الحال لأعوام قليلة فسيكون له شأن يقلق الأشرار , ولذا كان لزاما من العمل على وقف مسيرة الخير والنماء , ورغم انتمائي التقليدى الموروث للحزب الاتحادي الديمقراطي , إلا أن إيماني أن السودان فوق كل انتماء حزبي ضيق وأن السودان يجب أن يكون أولا وثانيا وعاشرا وأخيرا وأن انتماءاتنا يجب أن تكون للإنجاز والبرامج لا للطوائف الحزبية الضيقة . عدت من السودان أخيرا وكلي رضا عما ينتظم البلاد من نهضة أخرجتنا من محيط الخجل الذى كنا نحياه عندما يزورنا أخ أو صديق من دولة عربية , فلا يجد شارعا يسر ولا إضاءة ولا حتى إشارة مرور مع شح الماء بالخرطوم التى يلتـقي عنـدها النهران العظيمان الأبيض والأزرق ! واليـوم نحن فى حال آخر . كنا لا نجد البص الذى ينقلنا من مطار الخرطوم الحار إلى الطائرة وكانت صالة الوصول عبارة عن بعض الفراندات سقفها من الزنك , وكانت هناك ندرة فى كل شيء من بترول وغاز طبخ وحتى السكر الذى ننتجه بكثرة , معاناة يومية لا حد لها , واليوم كل شيء متوفر تماما حتى لو أنك احتجت إلى لبن العصفور فلن تجد معاناة فى شرائه وربما النوق العصافير , وانهال رأس المال الأجنبي تنمية وتعميرا , وفُعلت الدبلوماسية السودانية فى المجال العربي والأفريقي والعالمي على يدي وزير نشط , فهل يرضى ذلك أعداء الحياة والتقدم ؟ ولمن نشرح الحقيقة ولمن نقدمها ؟ لو أردنا أن يذهب البشير لفعلنا مثلما فعلنا مع عبود ونميري , ولكننا لم نرد وسنسانده ضد قوى الشر والتآمر ولن نتخلى عنه ولن نسلمه لعدو أبدا رغم أنف أمريكا والمتآمرين معها . عفوا أن يأخذنى الكلام عن وطني وخوفي عليه فليس بعد الوطن ولا قبل الوطن من أولوية , هو كل الذكريات وأيام الطفولة والصبا والشباب. وأعود إلى دوافع الكتابة من جديد . البعض يكتب للشهرة , صنفان : أحدهما لا خلفية لـه عن الكتابة ولا ثقافة ولا مقومات الكاتب , ولكنه يأبى إلا أن يكتب أي كلام مهما كانت تفاهته العلمية وأخطاؤه اللغوية والنحوية , ويرمي غيره بما لا يليق وينعتهم بما يخجل له المرء , يريد أن يبني مجده على أشلاء الآخرين ومهاجمتهم عن حق أو بغير حق, وكم تعجبت من حملة شهادات عليا يلفتون نظري , فأبدأ قارئا لهم , ولكني أتعجب من فج كتابتهم وضحالتها وبعدهم عن العمق المفترض فى أشخاص يحملون مثل مؤهلاتهم , لا أجد فيما أقرأ إلا كتابة ذات خوار وصياح ( ديك...تور ) . والصنف الآخر يكتب عن قدرة واقتدار , ويقدم الكثير المثير الرائع , ولكن جهوده تذهب سدى وهباء , فلا صنعاء وصل ولا بلغ الشام , مؤذن فى صحراء , يحيا فقيرا ويموت فقيرا, ولحم الضأن تأكله الكلاب , وأي فرصة لـه مع من يصورون فيديو كليب يقوم على (سلام عليكو) , وأي فرصة لـه مع حسناء تظهر على فضائية لا تجيد حتى التعبير باللغة العربية ولا غيرها , ولكنها فاتنة تخفف دمها وتجذب الكثيرين , بل أي فرصة لـه مع من يظهرون على الشاشات وكأنهم ملاكمون بملابس غريبة وسلاسل وأساور وختم يغنون من الشعر الهابط ما يزكم أنوف المثقفين ولكنهم على كل حال أفضل حظا وأوسع شهرة , فلماذا نكتب إذن ؟ مجرد سؤال برئ ! من سمحت لـه نفسه وأراد أن يتسلق سلم الشهرة والمجد , فليكتب هِشّك بِشك والسلام على من اتبع الهدى . وعودة لمتابعة الكتابة على أن من يرغب أن يركب الموجة السائدة ويكتب هِشك بِشك جريا وراء الشهرة فليفعل , فهي أقصر الطرق إلى روما , ولكنى على كل حال لا ولم ولن أفعل ومهما كان الحال وكانت المواقف . ومن هذا المنطلق فسأُلزم نفسي بالكتابة الجادة والقول المفيد خصوصا وأننا سنسأل عما نكتب فى موقف عظيم يوم الفزع الأكبر وسنجد كتب أعمالنا تحوي الصغيرة والكبيرة , ولعل الأقراص المدمجةالمعروفة للجميع وحتى العاميين ب (compressed disks) تكون عاملا مساعدا إلى حدما لفهم ما سيكون عليه الحال . ولعل موضوع هِشك بِشك يشغلني فعلا هذه الأيام , بل ويشغلني كثيرا . شاءت الصدف السعيدة الجميلة أن أزور مسقط فى الآونة الأخيرة وتحديدا فى 25/8/2004 , تلك المدينة الرائعة الفائقة الجمال التى تمتد على ساحل الخليج العربي مكونة لوحة فنية رائعة وبديعة يمتزج فيها فن الحداثة فى أروع صوره بتاريخ ضارب فى الجذور بطبيعة ساحرة وبيئة نظيفة قلما تجد مثلها فى كثير من دول العالم , النظافة مظهر اشتهرت به المدينة , وتأخذني المناظر السحرية والحدائق الغناء هنا وهناك وتسرح بي فى عالم من الخيال والإعجاب , وفجأة أقرر إكمالا لانشراح الصدر أن ألتقي فى ذلك اليوم الجميل بأخي وصديقي الشاعر الكبير عزت عفيفي قطب . ولعلي مرة كنت قد قلت إنى لم أقابل الرجل رغم علاقتي الوطيدة به , قررت لقاءه بعد أن كنت أتحاشى ذلك , ولعل مصدر ألا ألاقيه كان يقوم على أساس أن اللقاءات روحيا وفكريــا أقوى وأجود وأبقى من أن تلـتقي بجسد طيني يفنى بعد عمر طويل إن شاء الله, ولعل ذلك الجسد الطيني لا يعجبك , فخير لك أن تسمع بالأصمعي من أن تراه , وخير لك أن تقرأ للحطيئة ألف مرة من أن تفكر فى ذلك الوجه الدميم أو تلتقيه , وحاشا لله أن يكون أخي عزت شبيها للحطيئة أو غيره من دميمي الخلقة , فصورته على صفحات الأزمنة العربية تحلي شاشة الإنترنت , وهو على كل حال أجمل مني هيأة وصورة , خصوصا بعد أن ترك الزمن بصماته على صورتي التي لا تلفت الانتباه أصلا , فلم يبق من شعر رأسى سوى ذكريات لعلها أن تحسب لمن كان لـه وقت يحب تقضيته فيما لا يفيد , وطالت لحيتي وأصبحت بيضاء , وكنت جدا لرهام وهاأنا موعود بأن أكون جدا لوئام من ابني الدكتور إبراهيم فى أوائل أكتوبر المقبل إن شاء الله , فقد أبلغنى ذلك بعد أن تأكد من أن الجنين أنثى , واخترت لها الاسم ليكون متناغما مع اسم حفيدتى الأولى من ابنتي الكبرى , وإن كان إبراهيم وزوجته يتمنيان أن يكون المولود ذكرا فقط لتسميته ( حسن ) دون تمييز بين الأنثى والذكر أو تفضيل هذا على ذاك , يتمنيانه ذكرا ليحمل اسمي فى حياتي وأشاهد كيف يكون خليفتي , و حقيقة كنت سأكون سعيدا به جدا متمنيا أن يكون أوفر وأحسن حظا مني , عموما كان وما يزال يخامرني اعتقاد بأن ابنهما الثاني القادم لاحقا بإذن الله سيكون ذكرا ولكني لن أراه فالموت سيكون أسرع خطى إلي طبعا , ولن يجد الخليفة مني ذلك التدليل والشعر والحب والإيثار الذى كنت سأحبوه به لو كنت حيا , عموما سيجد إرثا ضخما من قصاصات من ورق عليها بعض كتاباتي وأشعاري ولن تفيده شيئا سوى أن يقول كان جدي شاعرا وكاتبا أجريت معه اللقاءات الصحفية المتعددة والمقابلات التليفزيونية , إذا تمت المحافظة عليها بعد موتي , وربما لا يجد لها أثرا . حييت عزت عبر الهاتف وأخطرته أني فى انتظاره فى مكان معروف لديه , هرول الرجل مسرعا وجاء ليقابلني وجها لوجه لأول مرة , كانت الأحضان والقبلات ودفء المشاعر والود يغمر اللقاء , وكنت على عجل من أمري وارتباطات عديدة وسفر قريب بعد ساعات , وأصر الرجل أن أتغدى معه فاعتذرت , فأخذ يذكرني بالمثل المصري الشهير : كلْ طعام حبيبك تسره وكل طعام عدوك تضره . ولما لم يجد بداً من الفراق , اقترح علي أن يأخذني بسيارته لأقضى بعض مشاويري ونقضي وقتا أطول مع بعضنا فى أول لقاء مباشر لنا , وكان الحديث بيننا يدور حول ما ستنشره الأزمنة العربية لي من موضوع أخير سبق أن أرسلته إليها فى وقت سابق . أثار ذلك الكثير فى نفس صديـقي عـــزت واتفقنا على أن نتفق ( لا على ألا نتفق كما هو شائع) على الدوام إن كنا بعيدين عن بعضنا أو كنا على لقاء حالي أو مستقبلي , فما يجمعنا إن هو إلا تطابق نظرة وأفكار وتفكير وتجانس أرواح مؤتلفة . وقبل أن أعرض للقاء الطيب بيني وبين الشاعر الكبير, أريد أن أسجل هنا أني تهيبت وحاولت جاهدا ألا ألتقي بقلة من الرجال الكرام والعلماء القمم ذوي القامات الفارعة التى لا تضاهيها قامات فى مجال العلم والمعرفة والفكر , حاولت أن أنأى بنفسى عن لقاء العالم العلامة البروفيسور المرحوم عبدالله الطيب , فالرجل كان موسوعة علم ضخمة وكنت أتهيب مجرد لقائه والجلوس إليه حتى وفاته , خوفا من أن يفضح جهلي وضحالة قدراتي وتفكيري ومواهبي , يصدق عليه قول المتنبى فى مديح سيف الدولة الحمداني : عليم بأسرار الديانات والنهى له خطرات تفضح الناس والكتبا فى بائيته الشهيرة : فديناك من ربع وإن زدتنا كربا فإنك كنت الشرق للشمس والغربا كما خفت خوفا شديدا من أن تجمعنى الظروف بالشاعر العملاق والأديب الأريب واللغوي الفرد فى هذا الزمان والعالم الإسلامي المفكر المجدد الشيخ أ.د أحمد الكبيسي, حتى كما عبرت لـه مرة عبر الأثير لا أتيح فرصة أخرى لأبي حنيفة هذا الزمان ليمدد رجليه أمامي بعد أن يكتشف ضعف علمي وقلة حيلتي . ولكن شاء الله أن تكون له محاضرة فى مدينة شعم بشمالي رأس الخيمة وعمل بعض معارفى على جمعي بفضيلته , حيث أخبروه أن إقامتي قريبة من شعم وعلى بعد كيلومترات قليلة , واتصلوا بي للحضور إلى مركز حدود الدارة حيث كان اللقاء التاريخى بيني وبين الهرم العلمي الضخم فى الخامس والعشرين من سبتمبر 2001 , يوم لا ينسى فى تاريخ حيـاتي , والتقينا بعد ذلك مرات قلـيـلة ولكني كلمـا أحـن إلـيه ,أخاطبه من بعد : ألا من مبلغ عنى كبيسي بأنى فاقد روحى وعقلى أحن إليه إن جنت ليالى وإن صبح تبدى بعد ليل تجاذبت الحديث مع صديقي العزيز عزت عفيفي قطب , تناقشنا حول ما آل إليه الحال فى مجال الشعـر والأدب والكتابة واضمحلال ثقافة حتى في من يفترض فيهم الثقافة والعلم والمعرفة , وتعجبنا كيف أن رجوبة أو شعبولة أوسع شهرة وانتشارا من أقلامنا وأسمائنا التى ظلت تعطى بلا حدود على مدى خمسة عقود , زمان مهازل ولا شك ! وقد أجرت معي مؤخرا إحدى القنوات الفضائية العربية مقابلة أقنعتني بها بعد جهد جهيد بفضل علاقتي الشخصية بالسيد مدير البرامج بالفضائية الذى سبق لـه أن أجرى لقاء صحفيا مطولا معي فى أواخر الثمانينيات لمصلحة إحدى الصفحات الأدبية بإحدى الصحف اليومية , ونشر اللقاء على جزأين لطولـه وشموليته , وكان اللقاء فيما يبدو مميزا , إذ نما إلى علمى مؤخرا أن إحدى دراسات نيل شهادة الدكتوراة ركزت على ذلك اللقاء كعنصر أساسي للدراسة , ومن عجب أنه بعد أن سجل اللقاء التليفزيوني , وكان على شكل محطات تناولت عددا من الموضوعات فى كل محطة من ضمنها علاقتي بالشيخ العالم البروفيسور الكبيسي وعزت عفيفي قطب والكثير من الشيوخ الأدباء أو عشاق الأدب ولهم الحس الأدبي الفني الذى يمكنهم من معرفة وتمييز الغث من الثمين , وحين جاء موعد تقديم اللقاء بي , تحدثت عنه مذيعة الربط وقدمتني على أساس أنى حسن محمد حسن , وبعد المحطة الأولى عند تقديمها للمحطة الثانية , استفادت بعض الشيء من المحطة الأولى وقراءة اسمى تحت صورتي , وبعد أن استمعت إلى تقريظ كبير لي من المذيع الذى أجرى معى الحوار , عادت لتقدم المحطة الثانية مع الشاعر حسن إبراهيم الحسن وهو اسم لا أعرفه طبعا , وما عادت تنطق اسمي صحيحا إلا عند تقديم المحطة الثالثة وما تلاها ! ألم أقل لكم أننا نظل ونموت غير معروفين . حكيت ذلك لأخي عزت , فقال لي : لو كنت مؤلفا أو مغنيا لقصائد عصرية مثل: بيكاديللي وميكاديلي شاف شعري وكندريلي سأسأ على سيكا فى الهمباتيكا هى دي عيشة دي بقت فركيشة دخان على شيشة أو الأغنية الأخرى التى تقول بعض كلماتها : غنوا معايا أيوة أيوة ... غنوا معايا هلا هلا غنوا معايا هزوا هزوا ... واحد أتنين شمال يمين واحد أتنين فوق وتحت غنوا معايا أيوة أيوة ... غنوا معايا هلا هلا لكنت ذا شأن وقيمة وطفقت سمعتك تملأ الآفاق ولك من المعجبين والمعجبات من يعلقون صورتك على جدران حجرات نومهم ويتسابقون إليك بالأتوقرافات للاحتفاظ بتوقيع غال منك ! عموما لم أفهم من الأغنيتين شيئا , فربما تكون كُتبت للصفوة أو النخبة أو النخبويين مثلما نجاوب فى كل فضائية نداخلها بأن ما يحتفي به من شعر هردبيس ودردبيس وعلطبيس لا يستحق هذا الاهتمام ولا قيمة لـه , ولست أدري متى نكون من النخبويين الذين يفهمون ؟ مجرد سؤال برئ وربما كان فيه بعض الخبث , وأعود لأسأل ولماذا نكتب نحن إذن ؟ عموما تمضي أيامنا طولا وعرضا , وتبقى فقط ذكرياتنا المؤلمة بعد أن نرحل وطوال بقائنا ! كتب الأستاذ الناقد المغربي أحمد وليد الروح تعليقا على مقالي ولماذا نكتب , يقول : حينما قرأت سؤالك " و لماذا نكتب ؟ " سألت نفسي سؤالا آخر و إن كان يعاكسه إلا أنه يمشي في نفس سياقه ، و السؤال هو : " و لماذا نقرأ ؟ " ما الذي يشدني للقراءة و يجعلني أقضي ساعات طوال أنا أحوج فيها إلى الراحة و الرفق بجسدي المنهك و فكري المتعب ...؟ أقضي كل هذه الساعات أقرأ ، أحاور نفسي و أحاور الكاتب من خلال أفكاري الضيقة او الواسعة ، لا يهم ، المهم أنها تخصني و تشبع رغباتي فيما يخص تعطشي للقراءة و الفهم ، ثم أتساءل لماذا يقضي الكاتب ساعات طوال يفكر ، و يكتب مسودات يشطب أكثرها و لا يرينا منها إلا ما أُضيء عنده ، أو ما ظن أنه مُضاء ؟ يقبع في غرفة او مكتب وحيدا يسجن نفسه مع قلم و أوراق متناثرة ، أو مع حاسوب ... ؟ في حين أن هذا الوقت يُضيِّعه على أقرب الناس إليه ) الزوجة و الأولاد ... الأحفاد( هل هي أنانية كاتب أم فضول قارئ ؟ لما يتصيد الكاتب دائما قُرَّاءه بطريقة جهنمية لا تخطر على بال ؟ لما يسرق منا وقتنا و ساعاتنا الثمينة ؟ لما كلما فكرت أن لا أٌقرأ بهذا اليوم أجدني قد قرأتُ الكثير و كتبتُ الكثير أيضا ؟ لما دائما تتصيدني كلماتك و أدخل متاهات المعاني عندك ؟ ألِأنني أفهمك كثيرا ؟ أم أنني لا أفهم نفسي ؟ أم ربما فكرنا واحد ...؟ هذا ما حصل معي و أنا أمرُّ مسرعا على مقالتك هذه ، كلمة ترميني لجملة و الجملة لمعنى ، و المعنى لمأساة أحاول دائما الهروب و عدم التفكير فيها ) حال الأمة العربية الإسلامية السياسي و الثقافي( تتحدث كثيرا دون أن تنسى ذكر الموت القريب و أنا أحس دائما أنه يطل علي من وراء أذني ... فموت الكاتب يعني حتما موت القارىء فكلاهما يكمل الآخر ... كتاباتك لها معاني كثيرة تشرق فوق الورق مثل اللهيب ، و أنا كقارىء أعشق الموت بأحضان اللهب .. ربما طهرتنا ناره مما نقرأه باستمرار فيلوث أدمغتنا .. فلا تتساءل كثيرا "لماذا تكتب ؟" ربما الكتابة لم يعد لها قراء ، لكن يكفي أن أقرأ أنا والآخر والآخر ..على قلتنا لكي تبقى كتابتك نافعة ، وإن لم تنفع اليوم ربما نفعت بزمن آخر من يدري ؟ دمت ودام قلمك للكتابة والإجابة والسؤال ، لكنني أخاف عليك أخي فما تكتبه لا يخصك وحدك . لك فــي القلــــب خفقـة تســتجد تتســــ امى قصـــائدا لا تعـــــــد يا هزار السودان ذكــرك أمسى فـــــي لــيـالــي دعـــوة لا تـُرد حســبي الله فــــي البعــــاد وإنا قــاب قوســــين ها أنا مستعـــد
|
|
 
|
|
|
|