مستوحى من دراسة د. دينا الطائي "الانضباط الواعي والنقد الثوري: مسؤولية الشيوعيين في لحظات الإرباك"
في البدء الشكر موصول للصديق حماد عبد الرحمن - رئيس أتحاد الشباب السوداني السابق، وهو يمدني بالدراسة الشيقة والعميقة للقيادية بالحزب الشيوعي العراقي الدكتورة دينا الطائي "الانضباط الواعي والنقد الثوري"، والتي تطرح سؤالاً جوهرياً عن جوهر الفعل الشيوعي في لحظات الأزمات: كيف يمكن للحزب أن يحافظ على وحدته التنظيمية دون أن يخنق روحه النقدية؟ وكيف يمكن للنقد أن يكون أداةً للبناء لا للهدم؟
هذا السؤال لا يبدو فكرياً فحسب، بل يكتسب بعداً عملياً في تجربة الحزب الشيوعي السوداني، الذي يقف اليوم أمام اختبارٍ صعب بين الحفاظ على تماسكه الداخلي وبين حاجته إلى تجديد فكره وأساليبه.
الانضباط الواعي لا الحديدي
منذ تأسيسه، كان الانضباط التنظيمي أحد أسرار بقاء الحزب الشيوعي السوداني رغم القمع والانقسامات. لكن هذا الانضباط الذي شكّل في مراحل معينة درعاً واقياً، يمكن أن يتحول إلى جمودٍ تنظيمي، خصوصاً حين أصبح الولاء مقدّماً على الحوار.
تستشهد د. الطائي بغرامشي الذي رأى أن الحزب ليس جهازاً إدارياً، بل "المثقف الجمعي للطبقة العاملة"، أي أنه لا يعيش إلا بوعيه، لا بتراتبيته. وهنا تكمن الأزمة: ولا زال الحديث عن الحزب الشيوعي السوداني، فحين يفقد الانضباط وعيه يتحول إلى شكلٍ من أشكال السيطرة، ويصبح حماية التنظيم غايةً في ذاتها لا وسيلةً لخدمة الوعي الجماعي.
النقد الثوري: حقٌّ وواجب
النقد الثوري، في منطقٍ ماركسيٍّ أصيل، ليس خيانةً للصف، بل دفاعًا عن جوهر الفكرة. كما تقول روزا لوكسمبورغ: "التاريخ لا يعاقبنا على اختلافنا النظري، بل على انقسامنا العملي."
وهنا تبرز الحاجة إلى إعادة النظر في كيفية تعامل الحزب مع النقد الداخلي، إذ يميل أحياناً إلى التعامل معه كتهديدٍ للانضباط، لا كوسيلةٍ لتصحيح المسار. وكثيراً ما نصدم بعباراتٍ تصدر من بعض القيادات الحزبية المرموقة تصف منتقدي الحزب بـ«التصفويين» أحياناً، و"المفترين" أو "الكذابين" أحيانًا أخرى، وهو ما لا يليق بحزبٍ سعى طوال تاريخه إلى ترسيخ مبدأ احترام الرأي والرأي الآخر.
لقد عرف الحزب الشيوعي السوداني في السنوات الأخيرة خلافاتٍ حول الموقف من التحالفات السياسية، والسلطة الانتقالية، والحرب الراهنة. لكن للأسف، أُديرت هذه الخلافات بعقليةٍ عقابيةٍ لا فكرية، مما عمّق الفجوة بين القيادة وبعض القواعد والكوادر، بل وبين الحزب والشارع السياسي نفسه.
المبدأ والتكتيك: بين لينين والواقع السوداني
تستعيد الطائي في دراستها عبارة لينين الشهيرة: "من لا يعرف كيف ينحني للعاصفة لا يعرف كيف يسير إلى الثورة." وفي سياق الحزب الشيوعي السوداني، تكتسب هذه المقولة راهنيتها القصوى. فالمعضلة ليست في نقاء المبدأ، والسير على نهج "الفرقة الناجية"، بل في القدرة على إدارة التكتيك بوعيٍ مبدئيّ. فالتمسك الجامد بالشعارات قد يتحول إلى عزلةٍ سياسية، تماماً كما أن التنازل غير الواعي يقود إلى ضياع الهوية الطبقية للحزب.
إنّ قوة الحزب الثوري لا تُقاس بجمود مواقفه، بل بقدرته على تحويل مرونته التكتيكية إلى فعلٍ يحافظ على جوهر الفكرة الماركسية في واقعٍ متحوّل.
أزمة الحوار الداخلي
واحدة من أبرز التحديات التي تواجه الحزب اليوم هي تراجع الحوار الرفاقي المفتوح داخل أجهزته. فبدل أن يكون النقد الذاتي ممارسةً تربويةً كما كان في الخمسينات والستينات، وحتى قبيل انعقاد المؤتمر السادس، بات يُنظر إليه في بعض الأحيان كنوعٍ من "التمرد". وهكذا يتحول النقاش من أداة تطوير إلى مصدر توتر، ومن سلاح وعي إلى ملف انضباطي.
لكن الحزب الذي يخشى النقد يفقد قدرته على التجدد. فكما تذكّرنا د. الطائي، "الانضباط ليس نقيض النقد، بل شرط إمكانه." وبقدر ما ينفتح الحزب على الرأي المختلف، بقدر ما يثبت أنه تنظيم حيّ، لا طائفة فكرية منغلقة.
نحو انضباط نقديّ جديد
تطرح الدراسة - ضمنياً - تصوراً بديلاً يمكن تلخيصه في عبارة: الانضباط النقدي الواعي. أي أن يظل الحزب منضبطاً في الفعل، لكنه حرٌّ في الفكر؛ متماسكاً في الإرادة، لكنه متعدّد في الرؤى. ولن يتحقق ذلك إلا عبر خطوات عملية واضحة، من بينها:
إحياء منابر النقاش الداخلي بين الأجيال المختلفة من الرفاق، وهنا اتحدث عن مجلة الشيوعي تحديدا كمنبر لإدارة الصراع الفكري وتبادل الرؤى المختلفة، وجعل الحوار النقدي جزءاً من التربية التنظيمية اليومية. إشاعة ثقافة النقد الذاتي المسؤول بوصفه قيمة ماركسية لا ترفاً فكرياً، مع التأكيد على أن النقد ليس سلاحاً ضد الأشخاص، بل ضد الأخطاء. التعامل بشفافية كاملة مع البلاغات والانتقادات التي تطال القيادات، أيّاً كان موقعها أو تاريخها الحزبي، بحيث يُنظر إلى المساءلة كضمانة للعدالة التنظيمية لا كاستهداف شخصي. إلزام القيادة بالردّ العلني والواضح على التساؤلات التي تردها من القواعد أو من الحلفاء والأصدقاء، خصوصاً فيما يتصل بالاتهامات حول التكتلات أو المواقف الغامضة، لأن الصمت في مثل هذه الحالات يفتح الباب للشائعات ويضعف الثقة التنظيمية. دمج الأجيال الجديدة في مواقع القرار بما يضمن تداول الوعي لا الأشخاص، وتحويل الخلافات إلى ورشٍ فكرية تُثري التجربة بدلاً من أن تضعفها. بهذا الفهم، يصبح الانضباط ليس أداة ضبطٍ ميكانيكي، بل نظاماً حيّاً للمساءلة والشفافية والتكامل بين الفكر والممارسة. فالحزب الذي يُخضع قياداته للنقد بقدر ما يطالب به قواعده، هو الحزب الأقدر على تجديد نفسه من الداخل، دون الحاجة إلى انشقاقات أو صدمات.
خاتمة
تختم د. دينا الطائي دراستها بقولها:
"أن تكون داخل الصفّ الرفاقي لا يعني أن تفقد وعيك، بل أن تكون ضميره الحيّ."
وهذا بالضبط ما يحتاجه الحزب الشيوعي السوداني اليوم: أن يستعيد دوره كضميرٍ فكريٍّ ناقدٍ لا كآلة تنظيميةٍ جامدة. فمشروع التحرر لا ينتصر بالانضباط وحده، ولا بالنقد وحده، بل بتلك الجدلية الخلّاقة بين الوعي والالتزام، بين الفكر والفعل.
الانضباط الواعي هو وعي بالضرورة التاريخية، والنقد الثوري هو ضمانة البقاء الفكري. وبينهما يولد الحزب من جديد، كلّما استطاع أن يرى في نقده قوته، وفي اختلافه شرط وحدته.
_______________________________________________ عاطِف عبدالله قسم السيد Atif Abdalla Gassime El-Siyd
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة