• قلت أمس أن رفيقي وقريبي على أحمد هريمي (رحمه الله) يحافظ منذ سنوات ومن الخرطوم على مؤانسة أحفاده شباب حي الداخلة بعطبرة عبر جماعة "الوفاء للداخلة". وقلت إن رفيقي مثل حي ل "جيل الصدى" وهو جيل التاريخ في عُرف شعب أفريقي ما. ويريدون به الشيوخ يجدون للحادثات التي تمر بالشباب صدى من الماضي الذي عاشوه فيؤمن الجديد من الزعزعة. فلا يروع الجيل الحاضر من وقع الحادثات. فقد سبق لها الوقوع ولم تفن الدنيا. • اقترح هريمي على منبر الوفاء للداخلة قبل أيام قيام حفل وفاء لفنان الداخلة عبد الله صباحي. ولا أعرف من كرس نفسه للفن مثل صباحي. نشأ وبه ضعف ملحوظ بالنظر. وتعلق قلبه بالفن وغناء أحمد المصطفى خاصة فلم يشرك به. ولا أعتقد أنه اتصل حتى بنقابة الفنانين ذات الصيت في المدينة. • أغلب غناء صباحي دكاكيني للأصدٍقاء. فلا أذكر أن غنى في أي من الحفلات التي شهدتها في الصبا. واجتمع حوله نفر من طليعة صبيان الحي مثل الخزين. ولهم مجالس على الرصيف الصخري العميق الحابس للنيل من الداخلة. ولا أذكر من غنائه الخاص سوى: • عند البحر فوق الرصيف • االخزين آه الخزين • أول لقاء لي بصباحي كان في نحو ١٩٥٣ وأنا في أول سلم المدرسة الوسطى. وسكننا وقتها كان حلة المحطة لعمال إدارة القطارات من محطة عطبرة. وهي جزء من حي لكبار الموظفين ومتوسطيهم عند كبري مكاتب العموم ممتداً حتى رئاسة شرطة ولاية النيل حالياً. واتفق لإخواننا الكبار مثل شقيقي الزين ومحجوب محي الدين وقاسم حسن وحسن الأمين وعبد العزيز الحلفاوي وغيرهم أن يقيموا حفلاً مسرحياً دعوا صباحي لإحيائه. • ولم يكن أمر هذا الحفل بسر. فلم يريدوا منه، وهم على عتبة الصبا، سوي استدراج فاتنة الحي التي وفدت أسرتها للحي من قريب. كانت صبية مليحة لها وجه المولدين الصبوح، وعودها رشيق في زيها الغربي. وافتتن بها كبارنا فتنة خلصوا منها لخطة لقنصها جماعياً طالما قنعوا من نيلها فرادى. كانوا يريدون بل ظمأهم من سماحتها لوقت أطول في حفل مصنوع لأجلها. • أخلص فيلق عشاق حلة المحطة للحفل على أنه كان سبوبة غير مقصود لذاته. فأعدوا مسرحية بحق وحقيق. ولا أذكر منها سوى أنني لعبت دوراً موجزاً اقتصر على الظهور المباغت على خشبة المسرح ثم التلاشي منه بأعجل ما تيسر. ولا أذكر من ذلك الدور سوى تقريضي لرغيف من مخبز فحام الذي لم أذق أطعم منه إلى يومنا. وتكررت عليّ أدوار الفجأة تلك. فأذكر دوراً موجزاً آخر في مسرحية "إسلام عمر" ونحن في مطلع المرحلة الثانوية. واقتصر دوري على تنبيه خلية المسلمين الباكرة في مكة بمقدم عمر الذي كان ما يزال على الكفر شديداً على المسلمين. فكنت اتربص به وأنبه إلى مجيئه بقولي: "هذا عمر هذا عمر". وسمع هذه الحكاية مني يوماً السفير خالد فتح الرحمن على عهد المخلوع قال: "وما تزال تقول هذا عمر هذا عمر". • ورتب عشاق الحلة ثمناً لدخول المسرح وطافوا يوزعون تذاكرهم على الحي. ولا أعرف من السعيد الذي أوكلوا له دعوة فاتنة المحطة وإن كان قبض ثمن التذكرة من أسرتها أم جعلها طعماً لمودودرة قمرية الحي. انعقد الحفل في بيت من ركن ذلك الجزء من الحي الذي على مقطع الشارع من رئاسة شرطة ولاية نهر النيل الفاتح على ميدان مدرسة السعادة الذي كانت تجري فيه امتحانات قيادة السيارة. وأقمنا المسرح في البرندة الملحقة بالصالون ورصصنا كراسي المشاهدين على الفسحة التي أمامها. ونجح الحفل. شهدته ظبية حلة المحطة وهو المطلوب. وملأ كبار الصبية عيونهم منها بصورة جماعية. ورفعوا لها الستار عن مواهبهم في التمثيل. • وجاءنا صباحي من حي الداخلة يحمل عوداً ملفوفاً في ثوب. فملصه من الثوب ورأيت وربما غيري تلك الآلة عن كثب ولأول مرة. وغنى لنا من صفيه أحمد المصطفي. وكنت من شيعته أشاغب آخرين كان هواهم مع التاج مصطفى. ولا زلت أذكر واحدة من حججي البلهاء عليهم. فمتى ما حر النقاش ولم أجد ما أقوله ترنمت ب: • أحمد المصطفي يا ربي صلي عليه • وتعلمت بالزمن أن مثل هذا المنطق لا يقنع أحداً ولكني احتاج له أحياناً. • خرج من جمعنا من ودع صباحي إلى خارج الباب. وأذكر من عصر له في يده حق الحفلة من ثمن التذاكر. ولا زلت معجباً بتذكر أولئك الصبية، الذين لم يتجاوز عمر أي منهم الخامسة عشر سنة، أن للفن ثمناً وليس "جلسة استماع" أو "جلدة استماع" كما سماها لي مصطفى سيد أحمد مرة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة