"أين تكمن مأساة إجهاض ثورة ديسمبر ومفتاح بعثها من جديد"
"التباين بين مو إبراهيم وحمدوك من جهة،وقوى اليسار وقوى ديسمبر من الجهة الأخرى"
اطلعت على بعض المقالات التي تنادي بأن يحذو مو ابراهيم رجل الأعمال السوداني، حذو البنقلاديشي محمد يونس الحائز على جائزة نوبل عندما رجع إلى بلاده تاركاً اعماله ليقود عملية التغيير بصفته قائداً سياسياً.
وعليه سوف احاول في هذه النسخة من #البعد_الرابع أن اعارض هذه الفكرة عبر التحليل المنطقي الذي يبين أن مو ايراهيم لن يكون الخيار المناسب لحلحلة مسألة السودان المعقدة.
واضع في الحسبان أن البديل من أجل التغيير لا يحتاج لشخص، وإنما يحتاج لايمان جمعي بحتمية وضرورة التغيير الشامل من أجل حلحلة مسألة الصراع الاجتماعي المؤسسي في السودان.
أولاً دعونا نرى من أين بدأ التباين؟
عندما اندلعت ثورة ديسمبر المجيدة، كانت تطلعات الجماهير واضحة: حرية، سلام، وعدالة ، لا شعارات تزيينية فارغة، بل برنامج تحرر اجتماعي واقتصادي يقتلع بنية التمكين والفساد ويعيد توزيع الثروة لصالح الكادحين. لكن بعد سقوط البشير، تحوّل مسار الثورة إلى حكومة انتقالية ذات عقل تكنوقراطي، يقودها اقتصاديون وخبراء تنمية تربطهم صلات وثيقة بالمؤسسات المالية الدولية.
في قلب هذا التوجه، ظهر شخصان رمزيان: عبد الله حمدوك ومو إبراهيم، أحدهما في موقع القرار، والآخر في موقع النفوذ الفكري والدبلوماسي.
ثانيا؛ الليبرالية التكنوقراطية: من الثورة إلى الإدارة
تقوم الليبرالية التكنوقراطية على فكرة أن التغيير السياسي يمكن أن يتحقق عبر “إدارة جيدة” ومؤسسات فعالة، لا عبر الصراع الاجتماعي أو إعادة بناء علاقات الإنتاج.
هذه الفلسفة كانت أساس مشروع حمدوك، وهي نفس الرؤية التي تبنتها مؤسسة مو إبراهيم في أفريقيا: الحكم الرشيد، الشفافية، والاستثمار كطريق للتنمية.
لكن في السودان، كان هذا النهج يعني عملياً تجميد البعد الاجتماعي للثورة، فتحوّل الشعار من “الثورة خيار الشعب” إلى “الإصلاح خيار الخبراء”، ومن “العسكر للثكنات والجنجويد ينحل” إلى “التوافق والشراكة والمصفوفات”.
ثالثا؛ قوى اليسار وقوى ثورة ديسمبر المجيدة تقول ان الثورة لا تُدار من الخارج:
قوى اليسار الثوري، النقابات، لجان المقاومة، وبعض فصائل الحرية والتغيير رأت في هذا التحول تفريغاً للثورة من مضمونها، فبينما كان الشارع يطالب بتفكيك مؤسسات الإنقاذ، وذهاب العسكر إلى ثكناتهم،كانت الحكومة التكنوقراطية تلهث خلف رضا البنك الدولي ومؤتمرات باريس.
اليسار عموماً اعتبر أن مو إبراهيم، بدعمه غير المباشر لهذا المسار، أصبح جزءاً من المشكلة، لا الحل. فهو يمثل النموذج الإفريقي “الناجح” الذي يروّج لليبرالية من لندن وجنيف، لكنه يتغافل عن أن الفقر والاستبداد في القارة هما نتاج بنيوي لاقتصاد ريعي تابع، لا لسوء الإدارة وحده.
رابعا؛ بين رجل الأعمال والمثقف المصلح:
لا يمكن إنكار أن مو إبراهيم يحمل رؤية إصلاحية صادقة في ظاهرها: هو ينتقد القادة الفاسدين، يدعو للحكم الرشيد، ويمول جوائز النزاهة. لكن التناقض يكمن في أن إصلاح النظام من داخله لا يعني تغييره. فحين تتحول الثورة إلى مشروع تنمية بإشراف دولي، تُختزل إرادة الشعوب في مؤشرات أداء وبيانات حوكمة،وتُختزل العدالة الاجتماعية في “تمويل مشروعات الشباب” و“تمكين المرأة” و"ثمرات ب ٥ دولار" دون المساس بالبنية الاجتماعية ذاتها.
خامساً : النتيجة اجهاض ما بين عالمين:
بين رؤية مو إبراهيم وحمدوك، ورؤية لجان المقاومة وقوى اليسار،ضاعت الفترة الانتقالية في مسافة رمادية لم تكن ثورة خالصة ولا دولة مستقرة.
فانفضّ الشارع بعد أن شعر أن الثورة أُديرت من فوقه لا من داخله، ثم جاء انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ ليُكمل ما بدأته البيروقراطية: قتل الحلم المدني الديمقراطي.
سادساً؛ الخلاصة هي ان الثورة السودانية لم تُهزم بالسلاح وحده،بل هُزمت أولاً حين فقدت لغتها الجماهيرية والاجتماعية، حين استبدلت التنظيم الجماهيري بالمؤتمرات الدولية، وحين تم اختزال السودان في أرقام نمو واستثمار، لا في كرامة الإنسان السوداني نفسه.
اليوم، لا بد من مراجعة نقدية صريحة:
أن نميز بين الحكم الرشيد كأداة إدارية، والعدالة الاجتماعية كمشروع تحرري. فالأول يجمّل الدولة القديمة، والثاني يبني دولة جديدة.
وفي هذه المفارقة، تكمن مأساة ديسمبر ومفتاح بعثها من جديد.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة