لم تعد الهجمات التي تنفذها مليشيا الدعم السريع باستخدام المسيّرات مجرّد تطور عابر في أساليب القتال، بل تحوّلت إلى تهديد مباشر للمدنيين والبنى التحتية. فبينما يخوض الجيش معركته ببسالة لاستعادة الأمن، تلجأ المليشيا إلى أساليب يائسة لضرب المنشآت الحيوية وترويع المدنيين، في محاولة لتعويض خسائرها الميدانية بحرب من السماء، حرب لا تفرّق بين جندي في الميدان ومواطن في منزله.
الطائرات المسيّرة، التي كانت تُستخدم في الأصل لأغراض الاستطلاع أو المراقبة، أصبحت الآن أداةً للإرهاب المنظّم. فحين تفقد الجماعات المتمرّدة السيطرة على الأرض، تلجأ إلى السلاح البعيد الذي لا يتطلب شجاعة أو مواجهة، بل مجرد ضغط زرٍّ يوجّه الموت من مسافة آمنة. ما يجري اليوم في السودان هو مثال حيّ على هذا الانحدار؛ مليشيا عاجزة عن تحقيق نصر عسكري حقيقي، فاختارت الانتقام من المواطنين وتعطيل مقومات الحياة.
إن هذه الهجمات، التي استهدفت البنى التحتية ومرافق الخدمات العامة، ليست فقط عملا عسكريا؛ إنها رسالة سياسية سوداء تهدف إلى زعزعة ثقة المواطن في ممارسة حياته العادية بشكل آمن.
بيد أن الردّ لا يجب أن يكون تقنيا فحسب. فمواجهة هذا التهديد تحتاج إلى رؤية وطنية متكاملة تتجاوز فكرة “شراء أجهزة تشويش” أو “استيراد رادارات”. فالمسألة أعمق من ذلك؛ إذ تتعلق ببناء عقل أمني جديد، يستند إلى تنسيق حقيقي بين الجيش والأجهزة الأمنية والطيران المدني، ويستثمر في المعرفة المحلية والبحث العلمي والتطوير التكنولوجي. فكما أثبتت التجارب العالمية، لا يمكن حماية السماء إلا بفهمها أولا، ولا يمكن صدّ المسيّرات دون شبكة استخباراتية دقيقة قادرة على كشف مصادر الإطلاق وتعقب خطوط الدعم.
وفي الوقت نفسه، يجب ألا يُختزل الحديث في الجانب العسكري وحده. فحماية المدنيين جوهر أي سياسة دفاعية محكمة. يجب أن تترافق الخطط العسكرية مع إجراءات طوارئ مدنية واضحة، ونظام إنذار عام، وتوعية مجتمعية تضمن أن يعرف المواطن كيف يتصرف في حال وقوع الهجوم. فالمعركة ليست فقط في الأجواء، بل في وعي الناس واستعدادهم لمواجهة الخطر دون فوضى أو ذعر.
ورغم كل ما في المشهد من قتامة، فإن هذا التحدي يمكن أن يتحول إلى فرصة لإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس حديثة. فالحروب، مهما كانت قاسية، تفضح الثغرات وتدفع نحو الإصلاح. وربما تكون هذه الهجمات، بكل ما تحمله من ألم، بداية لإدراك أن أمن الدولة لا يُبنى فقط بالعدة العسكرية، بل بالثقة، والتكامل، والقدرة على التكيّف مع زمنٍ تتغير فيه أساليب الحرب كل يوم.
في النهاية، إن الطائرات المسيّرة التي تطلقها المليشيا ليست مجرد آلات تحمل متفجرات، بل تعبير عن عقلية تريد أن تسيطر على الدولة بالخوف لا بالقانون، وبالرعب لا بالشرعية. غير أن إرادة الدولة، إذا ما توحّدت، قادرة على تحويل هذا التهديد إلى نقطة انطلاق نحو بناء منظومة دفاع وطنية متماسكة. فالسماء التي حاولت المليشيا أن تجعلها ساحة للقتل، يمكن أن تصبح رمزا لاستعادة السيادة، إذا أدرك الجميع أن حماية الوطن لا تبدأ من الأرض فحسب، بل من كل متر في فضائه.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة